ابن تيمية : جواب عن ورقة أرسلت إليه في السجن

ص -211-    في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن:
قال الإمام أبو العباس أحمد بن تيمية في جواب ورقة أرسلت إليه في السجن في رمضان سنة ست وسبعمائة‏:‏
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا صلى الله عليه وآله وسلم تسليما أما بعد‏:‏
قد وصلت الورقة التي فيها رسالة الشيخين الجليلين العالمين الناسكين القدوتين أيدهما الله وسائر الأخوان بروح منه وكتب في قلوبهم الإيمان وأدخلهم مدخل صدق وأخرجهم مخرج صدق وجعلهم ممن ينصر به السلطان سلطان العلم والحجة والبيان والبرهان وسلطان القدرة والنصر بالسنان والأعوان وجعلهم من أوليائه المتقين وجنده الغالبين لمن ناواهم من الأقران ومن أئمة المتقين الذين جمعوا بين الصبر


ص -212-   والإيقان والله محقق ذلك ومنجز وعده في السر والأعلان، ومنتقم من حزب الشيطان لعباد الرحمن لكن بما اقتضته حكمته ومضت به سنته من الابتلاء والامتحان الذي يخلص الله به أهل الصدق والإيمان من أهل النفاق والبهتان، إذ قد دل كتابه على أنه لابد من الفتنة لكل من الداعي إلى الإيمان، والعقوبة لذوي السيئات والطغيان قال الله تعالى ‏{الم‏.‏ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ‏.‏ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَإذبِينَ‏.‏ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَن يَسْبِقُونَا سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏1‏:‏ 4‏]‏‏.‏ فأنكر سبحانه على من يظن أن أهل السيئات يفوتون الطالب؛ وأن مدعي الإيمان يتركون بلا فتنة تميز بين الصادق والكإذب، وأخبر في كتابه أن الصدق في الإيمان لا يكون إلا بالجهاد في سبيله فقال تعالى‏:‏ ‏{قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 14، 15‏]‏‏.‏ وأخبر في كتابه بخسران المنقلب على وجهه عند الفتنة الذي يعبد الله فيها على حرف وهو الجانب والطرف الذي لا يستقر من هو عليه، بل لا يثبت الإيمان إلا عند وجود ما يهواه من خير الدنيا، قال تعالى‏:‏ ‏{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏11‏]‏،

 

ص -213-   وقال تعالى‏:‏ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ‏}‏ ‏[‏محمد 31‏]‏
وأخبر  سبحانه  أنه عند وجود المرتدين؛ فلابد من وجود المحبين المحبوبين المجاهدين، فقال‏:‏
‏{فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏45‏]‏‏.‏
وهؤلاء هم الشاكرون لنعمة الإيمان، الصابرون على الامتحان، كما قال تعالى‏:‏ ‏
{وَمَا مُحَمَّدٌ إلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إلا بِإذنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 144-148‏]‏‏.‏
فإذا أنعم الله على الإنسان بالصبر، والشكر، كان جميع ما يقضي الله له من القضاء خيرًا له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"
‏لايقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيرًا له‏.‏ إن أصابته سراء فشكر كان خيرًا له، وإن أصابته ضراء

 

ص -214-   فَصَبر كان خيرًا له‏"‏‏.‏ والصابر الشكور هو المؤمن الذي ذكره الله في غير موضع من كتابه‏.‏
ومن لم ينعم الله عليه بالصبر والشكر فهو بشر حال، وكل واحد من السراء والضراء في حقه يفضي إلى قبيح المآل، فكيف إذا كان ذلك في الأمور العظيمة التي هي من محن الأنبياء والصديقين، وفيها تثبيت أصول الدين، وحفظ الإيمان، والقرآن من كيد أهل النفاق والإلحاد والبهتان‏.‏
فالحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لكرم وجهه وعز جلاله‏.‏
والله هو المسؤول أن يثبتكم، وسائر المؤمنين، بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ويتم عليكم نعمه الباطنة والظاهرة، وينصر دينه وكتابه، وعباده المؤمنين على الكافرين، والمنافقين الذي أمرنا بجهادهم والأغلاظ عليهم في كتابه المبين‏.‏
وأنتم فأبشروا من أنواع الخير والسرور بما لم يخطر في الصدور‏.‏ وشأن هذه ‏[‏القضية‏]‏ وما يتعلق بها أكبر مما يظنه من لا يراعى إلا جزئيات الأمور؛ ولهذا كان فيما خاطبت به أمين الرسول علاء الدين الطيبرسي إن قلت‏:‏ هذه ‏[‏القضية‏]‏ ليس الحق فيها لي بل لله ولرسوله وللمؤمنين من شرق الأرض إلى مغربها، وأنا لا يمكنني أن أبدل الدين، ولا أنكس راية المسلمين‏.‏ ولا أرتد عن دين الإسلام لأجل فلان، وفلان‏.‏

ص -215-   نعم يمكنني ألا أنتصر لنفسي، ولا أجازي من أساء إليَّ وافترى عليَّ، ولا أطلب حظي، ولا أقصد إيذاء أحد بحقي، وهذا كله مبذول مني ولله الحمد، ونفسي طيبة بذلك، وكنت قد قلت له‏:‏ الضرر في هذه ‏[‏القضية‏]‏ ليس عليَّ، بل عليكم، فإن الذين أثاروها من أعداء الإسلام الذين يبغضونه، ويبغضون أولياءه والمجاهدين عنه، ويختارون انتصار أعدائه من التتار ونحوهم‏.‏
وهم دبَّروا عليكم حيلة يفسدون بها ملتكم ودولتكم، وقد ذهب بعضهم إلى بلدان التتار، وبعضهم مقيم بالشام وغيره، ولهذه القضية أسرار لا يمكنني أن إذكرها، ولا أسمِّي من دخل في ذلك حتى تشاوروا نائب السلطان، فإن إذن في ذلك ذكرت لك ذلك، وإلا فلا يقال ذلك له، وما أقوله فاكشفوه أنتم، فاستعجب من ذلك وقال‏:‏ يا مولانا، إلا تسمى لي أنت أحدًا‏؟‏ فقلت‏:‏ وأنا لا أفعل ذلك، فإن هذا لا يصلح‏.‏
لكن تعرفون من حيث الجملة أنهم قصدوا فساد دينكم، ودنياكم، وجعلوني إمامًا تسترًا، لعلمهم بأني أواليكم، وأسعى في صلاح دينكم ودنياكم، وسوف  إن شاء الله  ينكشف الأمر‏.‏
قلت له‏:‏ وإلا فأنا على أي شيء أخاف‏!‏ إن قتلت كنت من أفضل الشهداء‏!‏ وكان عليَّ الرحمة والرضوان إلى يوم القيامة‏!‏ وكان على من قتلني اللعنة الدائمة في الدنيا، والعذاب في الآخرة‏!‏ ليعلم كل من يؤمن بالله ورسوله أني إن قتلت

 

ص -216-   لأجل دين الله، وإن حبست فالحبس في حقي من أعظم نعم الله عليَّ، ووالله ما أطيق أن أشكر نعمة الله على في هذا الحبس، وليس لي ما أخاف الناس عليه‏!‏ لا أقطاعي ‏!‏ ولا مدرستي‏!‏ ولا مالي‏!‏ ولا رياستي وجاهي‏.‏
وإنما الخوف عليكم إذا ذهب ما أنتم فيه من الرياسة والمال، وفسد دينكم الذي تنالون به سعادة الدنيا والآخرة، وهذا كان مقصود العدو الذي أثار هذه الفتنة‏.‏
وقلت‏:‏ هؤلاء الذين بمصر من الأمراء، والقضاة، والمشائخ، إخواني وأصحابي، أنا ما أسأت إلى أحد منهم قط، وما زلت محسنًا إليهم، فأي شيء بيني وبينهم‏؟‏‏!‏ ولكن لَبَّس عليهم المنافقون أعداء الإسلام‏.‏ وأنا أقول لكم - لكن لم يتفق أني قلت هذا له‏:‏ إن في المؤمنين من يسمع كلام المنافقين ويطيعهم، وإن لم يكن منافقًا، كما قال تعالى‏:
‏{وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 74‏]‏، وقد قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{ولا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ إذاهُمْ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 48‏]‏
والنفاق له شعب ودعائم، كما أن للإيمان شعبًا ودعائم، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏
‏"‏آية المنافق ثلاث‏:‏ إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان‏"‏‏.‏ وفيهما أيضا أنه قال‏:‏ ‏"‏أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها، إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فَجَر، وإذا اؤتمن خان‏"‏ ‏.‏

ص -217-   وقلت له‏:‏ هذه القضية أكبر مما في نفوسكم، فإن طائفة من هؤلاء الأعداء ذهبوا إلى بلاد التتر‏.‏ فقال‏:‏ إلى بلاد التتر‏؟‏ فقلت‏:‏ نعم‏.‏ هم من أحرص الناس على تحريك الشر عليكم إلى أمور أخرى لا يصلح أن إذكرها لك‏.‏
وكان قد قال لي‏:‏ فأنت تخالف المذاهب الأربعة، وذكر حكم القضاة الأربعة، فقلت له‏:‏ بل الذي قلته عليه الأئمة الأربعة المذاهب، وقد أحضرت في الشام أكثر من خمسين كتابًا، من كتب الحنفية، والمالكية، والشافعية، وأهل الحديث‏.‏ والمتكلمين، والصوفية، كلها توافق ما قلته بألفاظه، وفي ذلك نصوص سلف الأمة وأئمتها‏.‏
ولم يستطع المنازعون  مع طول تفتيشهم كتب البلد وخزائنه  أن يخرجوا ما يناقض ذلك عن أحد من أئمة الإسلام وسلفه، وكان لما أعطاني الدرج‏.‏ فتأملته فقلت له‏:‏ هذا كله كذب؛ إلا كلمة واحدة، وهي أنه استوى على العرش حقيقة، لكن بلا تكييف، ولا تشبيه‏.‏ قلت‏:‏ وهذا هو في ‏[‏العقيدة‏]‏ بهذا اللفظ‏:‏ بلا تكييف، ولا تمثيل، ولا تحريف، ولا تعطيل‏.‏ فقال‏:‏ فاكتب خطك بهذا‏.‏ قلت‏:‏ هذا مكتوب قبل ذلك في ‏[‏العقيدة‏]‏ ولم أقل بما يناقضه فأي فائدة في تجديد الخط‏؟‏‏!‏‏.‏
وقلت‏:‏ هذا اللفظ قد حكى إجماع أهل السنة والجماعة عليه غير واحد من العلماء، المالكية، والشافعية، وأهل الحديث، وغيرهم، وما في علماء الإسلام من ينكر ذلك، إلا هؤلاء الخصوم‏.‏

ص -218-   قلت‏:‏ فإن هؤلاء يقولون‏:‏ ما فوق العرش رب يُدْعى، ولا فوق السماء إله يُعْبَد، وما هناك إلا العدم المحض والنفي الصرف، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعرج به إلى الله تعالى، ولكن صعد إلى السماء، ونزل‏.‏ وأن الداعي لا يرفع يديه إلى الله‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إن الله هو هذا الوجود، وأنا الله، وأنت الله، والكلب والخنزير والعذرة‏!‏ ويقول‏:‏ إن الله حالٌّ في ذلك‏.‏
فاستعظم ذلك، وهاله أن أحدًا يقول هذا‏.‏ فقال‏:‏ هؤلاء يعني‏؟‏ ابن مخلوف وذويه‏.‏ ففلت‏:‏ هؤلاء ما سمعت كلامهم، ولا خاطبوني بشيء؛ فما يحل لي أن أقول عنهم ما لم أعلمه، ولكن هذا قول الذين نازعوني بالشام، وناظروني وصرحوا لي بذلك، وصرح أحدهم بأنه لا يقبل من الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقوله في هذا الباب مما يخالفهم‏.‏
وجعل الرجل في أثناء الكلام يصغى لما أقوله، ويعيه، لما رأى غضبي؛ ولهذا بلغني من غير وجه أنه خرج فرحًا مسرورًا بما سمعه مني‏.‏ وقال‏:‏ هذا على الحق، وهؤلاء قد ضيعوا الله، وإلا فأين هو الله‏؟‏‏!‏ وهكذا يقول كل ذي فطرة سليمة‏.‏ كما قاله جمال الدين الأخرم للملك الكامل لما خاطبه الملك الكامل في أمر هؤلاء، فقال له الأخرم‏:‏ هؤلاء قد ضيعوا إلهك، فاطلب لك إلهًا تعبده‏.‏
ومن المعلوم باتفاق المسلمين أن الله حي حقيقة، عليم حقيقة، قدير حقيقة، سميع حقيقة، بصيرحقيقة، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته، وإنما ينكر ذلك

 

ص -219-   الفلاسفة الباطنية‏.‏ فيقولون‏:‏ نطلق عليه هذه الأسماء، ولا نقول‏:‏ إنها حقيقة‏.‏ وغرضهم بذلك جواز نفيها، فإنهم يقولون‏:‏ لا حي حقيقة، ولا ميت حقيقة، ولا عالم ولا جاهل، ولا قادر ولا عاجز، ولا سميع ولا أصم‏.‏
فإذا قالوا‏:‏ إن هذه الأسماء مجاز، أمكنهم نفي ذلك؛ لأن علامة المجاز صحة نفيه‏.‏ فكل من أنكر أن يكون اللفظ حقيقة لزمه جواز إطلاق نفيه، فمن أنكر أن يكون استوى على العرش حقيقة، فإنه يقول‏:‏ ليس الرحمن على العرش استوى، كما أن من قال‏:‏ إن لفظ الأسد للرجل الشجاع، والحمار للبليد ليس بحقيقة، فإنه يلزمه صحة نفيه‏.‏ فيقول‏:‏ هذا ليس بأسد، ولا بحمار، ولكنه آدمي‏.‏
وهؤلاء يقولون لهم‏:‏ لا يستوى الله على العرش‏.‏ كقول إخوانهم‏:‏ ليس هو بسميع ولا بصير، ولا متكلم؛ لأن هذه الألفاظ عندهم مجاز‏.‏ فيأتون إلى محض ما أخبرت به الرسل عن الله  سبحانه  يقابلونه بالنفي والرد، كما يقابله المشركون بالتكذيب، لكن هؤلاء لا ينفون اللفظ مطلقًا‏.‏
وقال الطلمنكي ‏[‏هو أبو عمرو أحمد بن محمد بن عبد الله بن يحيى المعافري الأندلسي، صنف كتبًا كثيرة في السنة، وكان سيفًا مجردًا على أهل الأهواء والبدع، توفي سنة 924ه‏]‏  أحد أئمة المالكية  قبل ابن عبد البر، والباجي، وطبقتهما  في ‏[‏كتاب الوصول إلى معرفة الأصول‏]‏‏:‏ أجمع المسلمون من أهل السنة على أن معنى
‏{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 4‏]‏، ونحو ذلك من القرآن‏:‏ أن ذلك علمه، وأن الله فوق السموات بذاته مستو على العرش كيف شاء‏.‏
وقال  أيضًا‏:‏ قال أهل السنة في قول الله تعالى‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏:‏

 

ص -220-   إن الاستواء من الله على عرشه المجيد على الحقيقة، لا على المجاز‏.‏ وقال ابن عبد البر في ‏[‏التمهيد‏]‏  شرح الموطأ، وهو أشرف كتاب صنف في فنه  لما تكلم على حديث النزول قال‏:‏ هذا حديث ثابت لا يختلف أهل الحديث في صحته‏.‏ وفيه دليل على أن الله في السماء على العرش من فوق سبع سموات كما قالت الجماعة، وهو من حجتهم على المعتزلة في قولهم‏:‏ إنه في كل مكان، وليس على العرش‏.‏
قال‏:‏ والدليل على صحة ما قاله أهل الحق، قول الله تعالى‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏‏.‏
وقال‏:‏ ‏
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقال‏:‏ ‏{تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، وقال‏:‏ ‏{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏ وذكر آيات‏.‏
إلى أن قال‏:‏ وهذا أشهر عند العامة والخاصة من أن يحتاج إلى أكثر من حكايته؛ لأنه اضطرار لم يوقفهم عليه أحد ولا خالفهم فيه مسلم‏.‏
وهذا مثل ما ذكر محمد بن طاهر عن أبي جعفر الهمداني‏:‏ أنه حضر مجلس بعض المتكلمين فقال‏:‏ ‏[‏كان الله ولا عرش‏]‏ فقال‏:‏ يا أستاذ، دعنا من ذكر العرش‏.‏ أخبرنا عن هذه الضرورات التي نجدها في قلوبنا‏:‏ ما قال عارف قط يا الله، إلا وجد في قلبه ضرورة تطلب العلو، لا تلتفت يُمْنة ولا يسْرَةً‏.‏ فضرب بيده على رأسه وقال‏:‏ حيرني الهمداني، حيرني الهمداني‏.‏ أراد الشيخ أن إقرار

 

ص -221-   الفطر بأن معبودها، ومدعوها فوق، هو أمر ضروري، عقلي، فطري، لم تستفده من مجرد السمع، بخلاف الاستواء على العرش  بعد خلق السموات والأرض في ستة أيام  فإن هذا علم من جهة السمع‏.‏
ولهذا لا تعرف أيام الأسبوع إلا من جهة المقرين بالنبوات، فأما من لا يعرف ذلك كالترك المشركين، فليس في لغتهم أسماء أيام الأسبوع‏.‏ وهذا من حكمة اجتماع أهل كل ملة في يوم واحد في الأسبوع، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اليوم لنا، وغدًا لليهود، وبعد غد للنصارى‏"‏‏.‏ وبسط ابن عبد البر الكلام في ذلك‏.‏
إلى أن قال‏:‏ وأما احتجاجهم بقوله تعالى‏:‏ ‏
{مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إلا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إلا هُوَ سَادِسُهُمْ‏}‏ ‏[‏المجادلة‏:‏ 7‏]‏، فلا حجة فيه لهم؛ لأن علماء الصحابة، والتابعين قالوا في تأويل هذه الأية‏:‏ هو على العرش، وعلمه في كل مكان، وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله‏.‏
قال أبو عمر‏:‏ أهل السنة مجمعون على الأقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة، لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئًا، ولا يحدون فيه صفة محصورة‏.‏ وأما أهل البدع  الجهمية والمعتزلة والخوارج  فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئًا منها على الحقيقة، ويزعمون أن من أقرَّ بها مشبه، وهم  عند من أقرَّ بها  نافون للمعبود، والحق ما نطق به كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم أئمة الجماعة‏.‏

ص -222-   وقال  أيضًا‏:‏ الذي عليه أهل السنة، وأئمة الفقه، والأثر، في هذه المسألة وما أشبهها‏:‏ الإيمان بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، والتصديق بذلك، وترك التحديد، والكيفية في شيء منه‏.‏
وقال السجزي في ‏[‏الإبانة‏]‏‏:‏ وأئمتنا كالثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، والفضيل، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله  سبحانه  بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب، ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئًا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه برءاء‏.‏
وقال الشيخ عبد القادر في ‏[‏الغنية‏]‏‏:‏ أما معرفة الصانع بالآيات، والدلالات  على وجه الأختصار  فهو أن يعرف ويتيقن أن الله واحد أحد صمد، إلى أن قال‏:‏ وهو بجهة العلو، مستو على العرش، محتو على الملك، محيط علمه بالأشياء‏.‏ قال‏:‏ ولا يجوز وصفه بأنه في كل مكان، بل يقال‏:‏ إنه في السماء على العرش، إلى أن قال‏:‏ وينبغي إطلاق صفة الاستواء من غير تأويل، وأنه استواء الذات على العرش‏.‏ قال‏:‏ وكونه على العرش في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل بلا تكييف‏.‏
وذكر الشيخ نصر المقدسي في ‏[‏كتاب الحجة‏]‏ عن ابن أبي حاتم قال‏:‏ سألت أبي وأبا زُرْعَةَ عن مذاهب أهل السنة‏؟‏ فقالأ‏:‏ أدركنا العلماء في جميع

 

ص -223-   الأمصار، حجازًا، وعراقًا، ومصر، وشامًا ويمنًا؛ فكان من مذاهبهم‏:‏ أن الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص والقرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، بجميع جهاته، إلى أن قال‏:‏ وإن الله على عرشه بائن من خلقه، كما وصف نفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بلا كيف، أحاط بكل شيء علمًا‏.‏
وقال الشيخ نصر في أثناء الكتاب‏:‏ إن قال قائل‏:‏ قد ذكرت ما يجب على أهل الإسلام من اتباع كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه الأئمة والعلماء فإذكر مذهبهم وما أجمعوا عليه‏.‏
فالجواب‏:‏ أن الذي أدركنا عليه أهل العلم، ومن بلغني قوله من غيرهم‏.‏‏.‏‏.‏ فذكر جمل ‏[‏اعتقاد أهل السنة‏]‏ وفيه‏:‏ وأن الله مستو على عرشه، بائن من خلقه‏.‏ كما قال في كتابه‏.‏
وقال أبو الحسن الكجي الشافعي في ‏[‏قصيدته المشهورة في السنة‏]‏‏:‏
 عقيدتهم أن الإله بذاته  على عرشه مع علمه بالغوائب
وقال القرطبي - صاحب التفسير الكبير  في قوله تعالى‏:‏ ‏{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 59‏]‏‏.‏ قال‏:‏ هذه ‏[‏مسألة الاستواء‏]‏ وللعلماء فيها كلام‏.‏ فذكر قول المتكلمين‏.‏ ثم قال‏:‏ كان السلف الأول لا يقولون‏:‏ بنفي الجهة، ولا ينطقون بذلك‏.‏ بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله؛ كما نطق به كتابه، وأخبرت

ص -224-   به رسله‏.‏ قال‏:‏ ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على عرشه حقيقة؛ وإنما جهلوا كيفية الاستواء‏.‏ فإنه لا تعلم حقيقته‏.‏
ثم قال  بعد أن حكى أربعة عشر قولاً‏:‏ وأظهر الأقوال ما تظاهرت عليه الآي، والأخبار، والفضلاء الأخيار أن الله على عرشه، كما أخبر في كتابه، وعلى لسان نبيه بلا كيف، بائن من جميع خلقه‏.‏ هذا مذهب السلف الصالح فيما نقله الثقات عنهم‏.‏
ولما اجتمعنا بدمشق، وأحضر فيمن أحضر كتب أبي الحسن الأشعري‏:‏ مثل ‏[‏المقالات‏]‏، و‏[‏الإبانة‏]‏ وأئمة أصحابه كالقاضي أبي بكر، وابن فُورَك، والبيهقي، وغيرهم‏.‏ وأحضر كتاب ‏[‏الإبانة‏]‏، وما ذكر ابن عساكر في كتاب ‏[‏تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري‏]‏ وقد نقله بخطه أبو زكريا النووي‏.‏
وقال فيه‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية، والرافضة، والمرجئة‏:‏ فعرفونا قولكم الذي به تقولون‏.‏
قيل له‏:‏ قولنا‏:‏ التمسك بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث‏.‏ ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أحمد بن حنبل  نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته  قائلون، ولما خالف قوله مجانبون؛ لأنه الإمام الفاضل الذي أبان الله به الحق عند ظهور الضلال وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين‏.‏

ص -225-   وذكر الاعتقاد الذي ذكره في ‏[‏المقالات‏]‏ عن أهل السنة ثم احتج على أبواب الأصول مثل‏:‏ ‏[‏مسألة القرآن‏]‏، و‏[‏الرؤية‏]‏ و‏[‏الصفات‏]‏ ثم قال‏:‏
[‏باب ذكر الاستواء‏]‏
فإن قال قائل‏:‏ ما تقولون في الاستواء ‏؟‏ قيل بأن الله مستو على عرشه‏.‏ كما قال سبحانه‏:‏
‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏} ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقال سبحانه‏:‏ ‏{بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقال فرعون‏:‏ ‏{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَإذبًا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏36  37‏]‏
كذَّب موسى في قوله‏:‏ إن الله فوق السموات‏.‏
وقال‏:‏
‏{أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 16‏]‏، والسموات فوقها العرش، وإنما أراد العرش الذي هو على السموات، ألا ترى أن الله ذكر السموات فقال‏:‏ ‏{وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا‏} ‏[‏نوح‏:‏ 16‏]‏ لم يرد أن القمر يملأهن جميعًا، وأنه فيهن جميعًا‏.‏ ورأينا المسلمين جميعًا يرفعون أيديهم إذا دعوا نحو العرش‏.‏
قال‏:‏ وقد قال قائلون من المعتزلة، والجهمية، والحرورية‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ ‏
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏ أي‏:‏ استولى، وملك، وقهر، والله في كل مكان، وجحدوا أن يكون الله على عرشه، كما قاله أهل الحق‏.‏ قال‏:‏ ولو كان كما قالوا، كان لا فرق بين العرش وبين الأرض السابعة السفلى؛ لأن الله قادر على كل شيء، وقدر ذلك‏.‏

ص -226-   وساق الكلام إلى أن قال‏:‏ ومما يؤكد لكم أن الله مستو على عرشه دون الأشياء كلها، ما نقله أهل الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله‏:‏ ‏"‏ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول‏:‏ هل من سائل فأعطيه‏؟‏ هل من مستغفر فأغفر له‏؟‏ حتى يطلع الفجر‏"‏ ثم ذكر الأحاديث‏.‏
وقال تعالى‏:‏
‏{يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 55‏]‏ قال‏:‏ وأجمعت الأمة على أن الله رفع عيسى إلى السماء‏.‏ وذكر دلائل‏.‏ إلى أن قال‏:‏ كل ذلك يدل على أن الله ليس في خلقه ولا خلقه فيه، وأنه عز وجل مستو على عرشه جل وعز وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا‏.‏ جل عما يقول الذين لم يثبتوا له في وصفهم له حقيقة، ولا أوجبوا له بذكرهم إياه وحدانية؛ إذ كان كلامهم يؤول إلى التعطيل، وجميع أوصافهم على النفي في التأويل، يريدون بذلك  فيما زعموا  التنزيه، ونفي التشبيه‏.‏ فنعوذ بالله من تنزيه يوجب النفي، والتعطيل‏.‏  وهذا باب واسع لا يحصر فيه كلام العلماء من جميع الطوائف، وما في ذلك من الدلائل العقلية والنقلية، وما يعارض ذلك أيضًا من حجج النفاة، والجواب عنها‏.‏
وقد كتبت في هذا ما يجىء عدة مجلدات، وذكرت فيها مقالأت الطوائف جميعها، وحججها الشرعية والعقلية، واستوعبت ما ذكره الرازي في كتاب ‏[‏تأسيس التقديس‏]‏ و‏[‏نهاية العقول‏]‏ وغير ذلك، حتى أتيت على مذاهب

 

ص -227-   الفلاسفة المشائين أصحاب أرسطو، وغير المشائين متقدميهم ومتأخريهم، كأفضل متأخريهم ‏[‏ابن سينا‏]‏ وأوحدهم في زمانه ‏[‏أبي البركات‏]‏ وذكرت حججهم‏.‏
فإني أعلم أن هذا الباب قد كثر فيه الاضطراب، وحار فيه طوائف من الفضلاء الإذكياء؛ لتعارض الأدلة عندهم‏.‏ وقررت الأدلة اللفظية الصحيحة، وميزت بينها وبين الشبهات الفاسدة، مع ما يجيء في ضمن ذلك من أصول عظيمة وقواعد جسيمة‏.‏
من أولها  وهو من أجل الأمور عند كثير من الناس  من تقرير استدارة الأفلاك‏.‏ فإني قررت ذلك، وذكرت كلام من ذكر إجماع المسلمين على ذلك، مثل ابن المنادي، وابن حزم، وابن الجوزي، وما يتعلق بذلك من الأمور الحسابية السمعية من الكتاب والسنة، إلى أمثال ذلك مما يطول وصفه‏.‏
وأيضًا، لما كنت في البرج ذكر لي أن بعض الناس علق مؤاخذة على الفتيا ‏[‏الحموية‏]‏ وأرسلت إلى، وقد كتبت فيما بلغ مجلدات، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
والناس يعلمون أنه كان بين الحنبلية والأشعرية وحشة ومنافرة‏.‏ وأنا كنت من أعظم الناس تأليفًا لقلوب المسلمين، وطلبًا لاتفاق كلمتهم، واتباعًا لما أمرنا به من الأعتصام بحبل الله، وأزلت عامة ما كان في النفوس من الوحشة، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين

 

ص -228-  
إلى الإمام أحمد  رحمه الله  ونحوه، المنتصرين لطريقه، كما يذكر الأشعري ذلك في كتبه‏.‏
وكما قال أبو إسحاق الشيرازي ‏[‏هو أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي، ولد سنة 393ه، له تصانيف كثيرة، منها‏:‏ ‏[‏التنبيه‏]‏ و‏[‏اللمع‏]‏ وغيرهما، توفي سنة 674ه‏]‏‏:‏ إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة، وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز، وأبي الحسن التميمي، ونحوهما، يذكرون كلامه في كتبهم، بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين، لكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله، وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها، فإنه كلما كان عهد الإنسان بالسلف أقرب، كان أعلم بالمعقول والمنقول‏.‏
وكنت أقرر هذا للحنبلية، وأبين أن الأشعري، وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب‏.‏ فإنه كان تلميذ الجبائي، ومال إلى طريقة ابن كلاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أمورًا أخرى، وذلك آخر أمره كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم‏.‏
وكذلك ابن عقيل كان تلميذ ابن الوليد وابن التبان المعتزليين ثم تاب من ذلك‏.‏ وتوبته مشهورة بحضرة الشريف أبي جعفر‏.‏ وكما أن في أصحاب أحمد من يبغض ابن عقيل ويذمه، فالذين يذمون الأشعري ليسوا مختصين بأصحاب أحمد، بل في جميع الطوائف من هو كذلك‏.‏
ولما أظهرت كلام الأشعري  ورآه الحنبلية  قالوا‏:‏ هذا خير من

 

ص -229-   كلام الشيخ الموفق، وفرح المسلمون باتفاق الكلمة‏.‏ وأظهرت ما ذكره ابن عساكر في مناقبه أنه لم تزل الحنابلة والأشاعرة متفقين إلى زمن القشيري، فإنه لما جرت تلك الفتنة ببغداد تفرقت الكلمة، ومعلوم أن في جميع الطوائف من هو زائغ ومستقيم‏.‏
مع أني في عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحدًا قط في أصول الدين إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي، ولا انتصرت لذلك، ولا إذكره في كلامي، ولا إذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها‏.‏ وقد قلت لهم غير مرة‏:‏ أنا أمهل من يخالفني ثلاث سنين إن جاء بحرف واحد عن أحد من أئمة القرون الثلاثة يخالف ما قلته فأنا أقر بذلك، وأما ما إذكره فإذكره عن أئمة القرون الثلاثة بألفاظهم، وبألفاظ من نقل إجماعهم من عامة الطوائف‏.‏
هذا، مع أني دائمًا  ومن جالسني يعلم ذلك مني  أني من أعظم الناس نهيًا عن أن ينسب معين إلى تكفير، وتفسيق، ومعصية، إلا إذا علم أنه قد قامت عليه الحجة الرسالية التي من خالفها كان كافرًا تارة، وفاسقًا أخرى، وعاصيًا أخرى، وإني أقرر أن الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية‏.‏
وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل ولم يشهد أحد منهم على أحد لا بكفر ولا بفسق ولا معصية، كما أنكر شريح قراءة من قرأ‏:‏
‏{بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 12‏]‏ وقال‏:‏ إن الله لا يعجب، فبلغ ذلك إبراهيم النخعي

 

ص -230-   فقال‏:‏ إنما شريح شاعر يعجبه علمه‏.‏ كان عبد الله أعلم منه وكان يقرأ‏:‏ ‏{بَلْ عَجِبْتُ‏}‏‏.‏
وكما نازعت عائشة وغيرها من الصحابة في رؤية محمد صلى الله عليه وسلم ربه، وقالت‏:‏ من زعم أن محمدًا رأى ربه فقد أعظم على الله الفريَةَ‏.‏ ومع هذا لا نقول لابن عباس ونحوه من المنازعين لها‏:‏ إنه مفتر على الله‏.‏ وكما نازعت في سماع الميت كلام الحي، وفي تعذيب الميت ببكاء أهله، وغير ذلك‏.‏
وقد آل الشر بين السلف إلى الاقتتال مع اتفاق أهل السنة على أن الطائفتين جميعًا مؤمنتان؛ وأن الاقتتال لا يمنع العدالة الثابتة لهم؛ لأن المقاتل وإن كان باغيًا فهو متأول، والتأويل يمنع الفسوق‏.‏
وكنت أبين لهم أن ما نقل لهم عن السلف والأئمة من إطلاق القول بتكفير من يقول كذا وكذا، فهو أيضًا حق، لكن يجب التفريق بين الأطلاق والتعيين‏.‏ وهذه أول مسألة تنازعت فيها الأمة من مسائل الأصول الكبار وهي مسألة ‏[‏الوعيد‏]‏، فإن نصوص القرآن في الوعيد مطلقة، كقوله‏:‏
‏{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏:‏10‏]‏، وكذلك سائر ما ورد‏:‏ من فعل كذا فله كذا، فإن هذه مطلقة عامة‏.‏
وهي بمنزلة قول من قال من السلف‏:‏ من قال كذا، فهو كذا‏.‏ ثم الشخص المعين يلتغي حكم الوعيد فيه بتوبة، أو حسنات ماحية، أو مصائب مكفرة، أو شفاعة مقبولة‏.‏

ص -231-   والتكفير هو من الوعيد، فإنه وإن كان القول تكذيبًا لما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن قد يكون الرجل حديث عهد بإسلام، أو نشأ ببادية بعيدة، ومثل هذا لا يكفر بجحد ما يجحده حتى تقوم عليه الحجة‏.‏ وقد يكون الرجل لم يسمع تلك النصوص، أو سمعها ولم تثبت عنده، أو عارضها عنده معارض آخر أوجب تأويلها، وإن كان مخطئًا‏.‏
وكنت دائمًا إذكر الحديث الذي في الصحيحين في الرجل الذي قال‏:‏ إذا أنا مت فأحرقوني، ثم اسحقوني‏.‏ ثم ذروني في اليم، فوالله لئن قدر الله علي ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا من العالمين‏.‏ ففعلوا به ذلك، فقال الله له‏:‏ ما حملك على ما فعلت‏؟‏ قال‏:‏ خشيتك فغفر له‏.‏
فهذا رجل شك في قدرة الله، وفي إعادته إذا ذُرىَ، بل اعتقد أنه لا يعاد‏.‏ وهذا كفر باتفاق المسلمين، لكن كان جاهلا لا يعلم ذلك، وكان مؤمنًا يخاف الله أن يعاقبه، فغفر له بذلك‏.‏
والمتأول من أهل الأجتهاد، الحريص على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى بالمغفرة من مثل هذا‏.‏

ص -232-   فصل
ما ذكرتم من لين الكلام، والمخاطبة بالتي هي أحسن، فأنتم تعلمون أني من أكثر الناس استعمالًا لهذا، لكن كل شيء في موضعه حسن، وحيث أمر الله ورسوله بالإغلاظ على المتكلم لبغيه وعدوانه على الكتاب والسنة، فنحن مأمورون بمقابلته، لم نكن مأمورين أن نخاطبه بالتي هي أحسن‏.‏ ومن المعلوم أن الله تعالى يقول‏:‏
‏{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏139‏]‏ فمن كان مؤمنًا فإنه الأعلى بنص القرآن‏.‏
وقال‏:‏
‏{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏المنافقون‏:‏ 8‏]‏ وقال‏:‏ ‏{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ‏.‏ كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي‏}‏ ‏[‏المجادلة20‏:‏ 21‏]‏ والله محقق وعده لمن هو كذلك كائنًا من كان‏.‏
ومما يجب أن يعلم‏:‏ أنه لا يسوغ في العقل ولا الدين طلب رضا المخلوقين لوجهين ‏[‏في المطبوعة  لوجين  والصواب ما أثبتناه‏]‏‏:‏
أحدهما‏:‏ أن هذا غير ممكن، كما قال الشافعي  رضي الله عنه‏:‏ الناس غاية لا تدرك، فعليك بالأمر الذي يصلحك فالزمه، ودع ما سواه ولا تعانه‏.‏
والثاني‏:‏ أنا مأمورون بأن نتحرى رضا الله ورسوله، كما قال تعالى‏:‏

 

ص -233-   {وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 62‏]‏، وعلينا أن نخاف الله فلا نخاف أحدًا إلا الله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 175‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 44‏]‏، وقال‏:‏ ‏{فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 51‏]‏، ‏{وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 41‏]‏‏.‏ فعلينا أن نخاف الله، ونتقيه في الناس، فلا نظلمهم بقلوبنا، ولا جوارحنا، ونؤدي إليهم حقوقهم بقلوبنا وجوارحنا، ولا نخافهم في الله فنترك ما أمر الله به ورسوله خيفة منهم‏.‏
ومن لزم هذه الطريقة كانت العاقبة له كما كتبت عائشة إلى معاوية‏:‏ أما بعد‏:‏ فإنه من التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه، وأسخط عليه الناس، وعاد حامده من الناس ذامًا‏.‏ ومن التمس رضا الله بسخط الناس رضى الله عنه، وأرضى عنه الناس‏.‏
فالمؤمن لا تكون فكرته وقصده إلا رضا ربه، واجتناب سخطه والعاقبة له، ولا حول ولا قوة إلا بالله‏.‏
هذا مع أن المرسل فرح بهذه الأمور جُوَّانيه في الباطن، وكل ما يظهره فإنه مراءاة لقرينه، وإلا فهما في الباطن متباينان‏.‏ وثم أمور تعرفها خاصتهم، ويكفيك الطيبرسي قد تواتر عنه الفرح والاستبشار بما جرى مع أنه المخاصم، المغلظ عليه‏.‏
وهذا  سواء كان أو لم يكن  الأصل الذي يجب اتباعه هو الأول وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏
‏"‏لا تبدؤوهم بقتال، وإن أكثبوكم فارموهم بالنبل‏"‏‏.‏ على الرأس والعين، ولم نرم إلا بعد أن قصدوا شرنا وبعد أن أكثبونا ؛ ولهذا نفع الله بذلك‏.‏

ص -234-   فصل
‏[‏ذكرتم من أني أطلب تفويض الحكم إلى شخص معين‏]‏‏.‏فهذا لا يصلح، بل فيه ضرر على ذلك الشخص، وعلى، وفساد عام‏.‏ وذلك أنكم تعلمون أن القاضي ‏[‏بدر الدين‏]‏ أني كنت من أعظم الناس موالاة له، ومناصرة، ومعاونة له ومدافعه لأعدائه عنه في أمور متعددة، بل ما أعلم أحدًا أكثر في مخالصة له ومعاونة‏.‏ وذلك لله وحده‏.‏ لا لرغبة، ولا لرهبة مني‏.‏  وقطعة قوية مما حصل لي من الأذى  بدمشق وبمصر أيضًا  إنما هو بسبب انتصاري له، ولنوابه، مثل الزرعي، والتبريزي، وغيرهما من حاشيته، وتنويهي بمحاسنه في مصر أيضًا، قد عرفت بذلك فإنه حزب الردى، وغيره يعادوني على ذلك‏.‏
والله يعلم أن منزلته عندي، ومكانته من قبلي، ليست قريبة من منزلة غيره‏.‏ فضلا عن أن تكون مثلها‏.‏ وحاشا لله أن يشبه بدر الدين بمن فرق الله بينه وبينه من وجوه كثيرة زائدة‏.‏ وفي سنن أبي داود عن عائشة قالت‏:‏ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم

 

ص -235-   وعندي من أظلم الناس من يقرن بينه وبين غيره في مرتبة واحدة بالشام، أو بمصر وما زال بدر الدين مظلومًا بمثل هذا من الأقران، وأنا أعتقد من أعظم ما أتقرب به إلى الله نصره، وموالاته، ومعاونته‏.‏‏.‏‏.‏‏[‏بياض بالأصل‏]‏ أنتم تعرفون في هذا خصوصًا بهذه الديار فإنه ينبغي أن تكون معاونةٌ له ومناصرةٌ له أكثر مما كانت بالشام؛ لأن في كثير من هؤلاء من النفرة عنه، والكذب والفجور ما ليس في غيرهم‏.‏
فأنا أحب وأختار كل ما فيه علو قدره في الدنيا والدين، ولا أحب أن أجعله غرضًا لسهم الأعداء، بل ما عملت معه، ومع غيره، وما أعمل معهم فأجرى فيه على الله الذي يقول‏:‏ ‏
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ‏}‏ ‏[‏الزلزلة‏:‏ 7، 8‏]‏‏.‏
ولهذا لما ذكر الطيبرسي القضاة وأجملهم، قلت له‏:‏ إنما دخل في هذه القضية ‏[‏ابن مخلوف‏]‏ وذاك رجل كذاب فاجر قليل العلم والدين‏.‏ فجعل يتبسم لما جعلت أقول هذا، كأنه يعرفه، وكأنه مشهور بقبح السيرة‏.‏
وقلت‏:‏ ما لابن مخلوف والدخول في هذا‏؟‏ هل ادعى أحد عليَّ دعوى مما يحكم به‏؟‏ أم هذا الذي تكلمت فيه هو من أمر العلم العام‏؟‏ مثل تفسير القرآن، ومعاني الأحاديث، والكلام في الفقه، وأصول الدين‏.‏ وهذه المرجع فيها

 

ص -236-   إلى من كان من أهل العلم بها، والتقوى لله فيها، وإن كان السلطان والحاكم من أهل ذلك تكلم فيها من هذه الجهة، وإذ عزل الحاكم لم ينعزل ما يستحقه من ذلك، كالإفتاء ونحوه، ولم يقيد الكلام في ذلك بالولاية‏.‏
وإن كان السلطان والحاكم ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه لم يحل له الكلام فيه، فضلًا عن أن يكون حاكمًا‏.‏ وابن مخلوف ليس من أهل العلم بذلك ولا التقوى فيه‏.‏
قلت‏:‏ فأما القاضي بدر الدين فحاشا لله، ذاك فيه من الفضيلة والديانة ما يمنعه أن يدخل في هذا الحكم المخالف لإجماع المسلمين من بضعة وعشرين وجهًا‏.‏
قلت‏:‏ ومن أصر على أن هذا الحكم الذي حكم به ابن مخلوف هو حكم شرع محمد صلى الله عليه وسلم، فهو بعد قيام الحجة عليه كافر‏.‏ فإن صبيان المسلمين يعلمون بالاضطرار من دين الإسلام أن هذا الحكم لا يرضى به اليهود، ولا النصارى، فضلا عن المسلمين‏!‏‏.‏
وذكرت له بعض الوجوه الذي يعلم بها فساد هذا الحكم، وهي مكتوبة مع ‏[‏الشرف محمد‏]‏‏.‏ وكذلك نزهت القاضي ‏[‏شمس الدين السروجي‏]‏ عن الدخول في مثل هذا الحكم‏.‏
وقلت له‏:‏ أنتم ما كان مقصودكم الحكم الشرعي، وإنما كان مقصودكم دفع

 

ص -237-   ما سمعتموه من تهمة الملك، ولما علمت الحكام أن في القضية أمر الملك أحجموا وخافوا من الكلام، خوفًا يعذرهم الله فيه، أو لا يعذرهم‏.‏ لكن لولا هذا لتكلموا بأشياء، ولو كان هذا الحكم شاذًا أو فيه غرض لذي سيف لكان عجائب‏.‏
فقالوا‏:‏ يا مولانا، من يتكلم في أمر الملك‏؟‏ نحن ما نتكلم‏.‏ دعنا من الكلام في الملك‏.‏ فقلت‏:‏ أيها النائم، أخليكم من الملك‏؟‏‏!‏ وهذه الفتنة التي قد ملأتم بها الدنيا هل أثارها إلا ذلك‏؟‏‏!‏ ونحن قد سمعنا هذا بدمشق، لكن ما اعتقدنا أن عاقلًا يصدق بذلك‏.‏
وهؤلاء القوم بعد أن خرج من أنفسهم تهمة الملك إذا ذكر لهم بعض ما يقوله المنازعون لي يستعظمونه جدًا ويرون مقابلة قائلها بأعظم العقوبة، فإن الله سبحانه يقول‏:‏ ‏
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏28‏]‏ فيعلم أني لو أطلب هذا ذهبت الطيور بي، وببدر الدين كل مذهب، وقيل‏:‏ إن بيننا في الباطن اتفاقات‏.‏ فأنا أعمل معه ما أرجو جزاءه من الله، وهو يعمل بموجب دينه‏.‏
وأيضًا، ف ‏[‏بدر الدين‏]‏ لا يحتمل من كلام الناس وأذاهم  مايفعله مثل هؤلاء  رجل له منصب، وله أعداء وأنا  ولا حول ولا قوة إلا بالله  فقد فعلوا غاية ما قدروا عليه، وما بقي إلا نصر الله الذي وعد به رسوله والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد‏.‏

ص -238-   وأيضًا، فيعلم أن هذا إما أن يتعلق بالحاكم أولا فإن تعلق به لم يكن للخصم المدعى عليه أن يختار حكم حاكم معين، بل يجب إلى من يحكم بالعلم والعدل، وإن لم يتعلق بالحاكم فذاك أبعد‏.‏
وأيضًا، فأنا لم يدع على دعوى يختص بها الحاكم من الحدود والحقوق، مثل‏:‏ قتل، أو قذف، أو مال، ونحوه، بل في مسائل العلم الكلية‏:‏ مثل التفسير، والحديث، والفقه، وغير ذلك‏.‏ وهذا فيه ما اتفقت عليه الأمة وفيه ما تنازعت فيه، والأمة إذا تنازعت  في معنى آية، أو حديث، أو حكم خبري، أو طلبي  لم يكن صحة أحد القولين، وفساد الآخر ثابتًا بمجرد حكم حاكم، فإنه إنما ينفذ حكمه في الأمور المعينة دون العامة‏.‏
ولو جاز هذا لجاز أن يحكم حاكم بأن قوله تعالى
‏{يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوَءٍ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 228‏]‏ هو الحيض والأطهار، ويكون هذا حكمًا يلزم جميع الناس قوله، أو يحكم بأن اللمس في قوله تعالى‏:‏ ‏{أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ هو الوطء، والمباشرة فيما دونه، أو بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج، أو الأب، والسيد وهذا لا يقوله أحد‏.‏
وكذلك الناس إذا تنازعوا في قوله‏:
‏ ‏{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ فقال‏:‏هو استواؤه بنفسه وذاته فوق العرش، ومعنى الاستواء معلوم، ولكن كيفيته مجهولة‏.‏ وقال قوم‏:‏ ليس فوق العرش رب، ولا هناك شيء أصلا، ولكن

 

ص -239-   معنى الآية‏:‏ أنه قدر على العرش، ونحو ذلك‏.‏ لم يكن حكم الحاكم لصحة أحد القولين وفساد الآخر مما فيه فائدة‏.‏
ولو كان كذلك لكان من ينصر القول الآخر يحكم بصحته إذ يقول‏:‏ وكذلك باب العبادات، مثل كون مس الذكر ينقض أو لا، وكون العصر يستحب تعجيلها أو تأخيرها، والفجر يقنت فيه دائمًا أو لا، أو يقنت عند النوازل ونحو ذلك‏.‏
والذي على السلطان في مسائل النزاع بين الأمة أحد أمرين‏:‏ إما أن يحملهم كلهم على ما جاء به الكتاب والسنة، واتفق عليه سلف الأمة؛ لقوله تعالى
‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 95‏]‏‏.‏ وإذا تنازعوا فهم كلامهم‏:‏ إن كان ممن يمكنه فهم الحق، فإذا تبين له ما جاء به الكتاب والسنة دعا الناس إليه، وأن يقر الناس على ما هم عليه، كما يقرهم على مذاهبهم العملية‏.‏
فأما إذا كانت البدعة ظاهرة - تعرف العامة أنها مخالفة للشريعة - كبدعة الخوارج، والروافض والقدرية والجهمية، فهذه على السلطان إنكارها لأن علمها عام، كما عليه الإنكار على من يستحل الفواحش، والخمر، وترك الصلاة، ونحو ذلك‏.‏
ومع هذا فقد يكثر أهل هذه الأهواء في بعض الأمكنة، والأزمنة، حتى

 

ص -240-   يصير بسبب كثرة كلامهم مكافئًا - عند الجهال - لكلام أهل العلم والسنة حتى يشتبه الأمر على من يتولى أمر هؤلاء، فيحتاج حينئذ إلى من يقوم بإظهار حجة الله، وتبيينها حتي تكون العقوبة بعد الحجة‏.‏
وإلا فالعقوبة قبل الحجة ليست مشروعة، قال تعالى‏:‏
‏{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 15‏]‏‏.‏
ولهذا قال الفقهاء في البغاة إن الإمام يراسلهم فإن ذكروا شبهة بينها وإن ذكروا مظلمة أزالها كما أرسل علي ابن عباس إلى الخوارج فناظرهم حتى رجع منهم أربعة آلاف، وكما طلب عمر بن عبد العزيز دعاة القدرية والخوارج فناظرهم حتى ظهر لهم الحق وأقروا به ثم بعد موته نقض غيلان القدري التوبة فصلب‏.‏
وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، ولا يفيد حكم حاكم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا اذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواءً وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم‏.‏
نعم الولاية قد تمكنه من قول حق ونشر علم قد كان يعجز عنه بدونها، وباب القدرة والعجز غير باب الاستحقاق وعدمه، نعم للحاكم إثبات ما قاله زيد أو عمرو ثم بعد ذلك إن كان ذلك القول مختصا به كان مما يحكم فيه الحكام؛

 

ص -241-   وإن كان من الأقوال العامة كان من باب مذاهب الناس، فأما كون هذا القول ثابت عند زيد ببينة أو اقرار أو خط فهذا يتعلق بالحكام‏.‏
ولا ريب أن مثل بدر الدين من أعدل الناس وأحبهم في أهل الصدق والعدل؛ ومن أشهد الناس بغضا لشهود الزور ولو كان متمكنًا منهم لعمل أشياء، فهذا لو احتيج فيه إلى مثل بدر الدين لكان هو الحاكم الذي ينبغي أن يتولاه دون من هو مشهور بالفجور‏.‏
لكن هذه المحاضر التي عندهم ما تساوي مدادها وهم يعرفون كذبها وبطلانها وأنا لا أكره المحاقه عليها عنده ليثبت عنده الحق دون الباطل فإن كان يجيب إلى ذلك فيا حبذا، لكني أخاف أن يحصل له أذى في بالقدح في بعض الناس فهو يستخير الله فيما يفعله والله يخير له في جميع الأمور‏.‏
بل أختار أنا وغيرى المحاقة على ذلك عند بعض نوابه كالقاضى جمال الدين الزرعى فإنه من عدول القضاة، وإلا فبدر الدين أجل قدرًا من أن يكلف ذلك لو كنت محتاجًا إلى ذلك فأما والأمر ظهر عند الخاصة والعامة فلا يحتاج اليه كما قلت للطيبرسي الكتاب من السلطان الذي كتب على لسان السلطان وأخبر عن ذلك بجميع ما أخبر من الكذب ومخالفة الشريعة أمور عظيمة بنحو عشرة أوجه‏.‏
والكتاب الذي كتب على لسان غازان كان أقرب إلى الشريعة من هذا الكتاب الذي كتب على لسان السلطان، وسواء

 

ص -242-   بأن فعل ذلك أو لم يفعله فإني أعتقد وأدين الله بأن نصره ومعاونته على البر والتقوى؛ وعلى نفوذ صدقه وعدله دون كذب الغير وظلمه؛ وعلى رفع قدره على الغير من أعظم الواجبات ولا حول ولا قوة الا بالله‏.‏
وقد أرسل الي الشيخ نصر يعرض علي إن كنت أختار إحضار المحاضر لأتمكن من القدح فيها، فقلت له‏:‏ في الجواب هي أحقر وأقل من أن يحتاج دفعها إلى حضورها، فإني قد بينت بضعة وعشرين وجها أن هذا الحاكم خارج عن شريعة الإسلام بإجماع المسلمين أهل المذاهب الأربعة وغيرهم‏.‏

ص -243-   فصل
وما ينبغى أن تعلمه أن القوم مستضعفون عن المحاقة إلى الغاية  ابن مخلوف وغيره  وقد أداروا الرأي بينهم وعلموا أنهم عند المحاقة مقهورون متهوكون، والطيرسي طلب مني غير مرة ترك المحاقة فقلت له‏:‏ أنا ما بغيت على أحد ولا قلت لأحد وافقني على اعتقادي وإلا فعلت بك؛ ولا أكرهت أحدا بقول ولا عمل بل ما كتبت في ذلك شيئًا قط إلا أن يكون جواب استفتاء بعد إلحاح السائل واحتراقه وكثرة مراجعته، ولا عادتي مخاطبة في هذا ابتداء‏.‏
وهؤلاء هم الذين دعوا الناس إلى ما دعوهم اليه وأكرهوهم عليه، فيبينون للناس ما الذي أمروهم به وما الذي نهوهم عنه فإن كانوا أمروهم بما أمرهم الله به ورسوله فالسمع والطاعة لله ولرسوله ولمن أمر بما أمر الله به ورسوله؛ وإن كانوا أمروا بحق وباطل ونهوا عن حق وباطل وأمروا ونهوا عن أمور لا يعرفون حقيقتها كانوا بذلك من الجاهلين الظالمين وكان الحاكم بذلك من القاضيين الذين في النار ولم تجز طاعتهم في ذلك بل تحرم‏.‏

ص -244-   وأنا لو شئت المحاقة كانت أمور عظيمة لكن من أنكر شيئًا مما قلته فليقل إنى أنكر كذا وكذا ويكتب خطه بما أنكره ويوجه إنكاره له‏.‏
وأنا أكتب خطي بالجواب ويعرض الكلامان على جميع علماء المسلمين شرقًا وغربًا، وأنا قائل ذلك وقد قلت قبل ذلك بدمشق هذه الإنكارات المجملة لا تفيد شيئًا، بل من أنكر شيئًا فليكتب خطه بما أنكره وبحجته، وأنا أكتب خطى بجواب ذلك ويرى أهل العلم والإيمان الكلامين فهذا هو الطريق في الأمور العامة، وأما الألفاظ التي لا تكتب فيكثر فيها التخليط والزيادة والنقصان، كما قد وقع، وقد قلت فيما قلته للطيبرسي‏:‏ هذا الأمر الذي عملتموه
فساد في ملتكم ودولتكم وشريعتكم والكتاب السلطاني الذي كتب على لسان السلطان فيه من الكذب عليكم ومخالفة الشريعة أمور كثيرة تزيد على عشرة أوجه، وكتاب غازان الذي قرئ على منبر الشام أقرب إلى شريعة الإسلام من هذا الذي كتب على لسان سلطان المسلمين وقرئ على منابر الإسلام، فاذ كان بحضورهم يكتب على الكذب عليكم وعلى القضاة ويبدل دين الإسلام فكيف فيما سوى ذلك مما غاب عنكم، وكذلك أرسلت مع الفتاح إلى نائب السلطان أقول هذا الاعتقاد عندكم وهو الذي بحثه علماء الشام فمن كان منكر منه شيئًا فليبينه‏.‏

ص -245-   ومما يجب أن يعلم أن الذي يريد أن ينكر على الناس ليس له أن ينكر إلا بحجة وبيان إذ ليس لأحد أن يلزم أحدا بشيء ولا يحظر على أحد شيئًا بلا حجة خاصة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن الله الذي أوجب على الخلق طاعته فيما أدركته عقولهم وما لم تدركه وخبره مصدق فيما علمناه وما لم نعلمه وأما غيره إذا قال هذا صواب أو خطأ فإن  لم يبين ذلك بما يجب به اتباعه، فأول درجات الإنكار أن يكون المنكر عالما بما ينكره وما يقدر الناس عليه فليس لأحد من خلق الله كائنًا من كان أن يبطل قولا أو يحرم فعلا إلا بسلطان الحجة وإلا كان ممن قال الله فيه‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 56‏]‏، وقال فيه‏:‏ ‏{الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ وَعِندَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 35‏]‏‏.‏
هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني، فإنه وإن تعدى حدود الله في بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية، فأنا لا أتعدى حدود الله فيه، بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتمًا بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه، قال الله تعالى‏:‏ ‏{
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 213‏]‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 59‏]‏ الآية

 

ص -246-   وقال تعالى‏:‏ ‏{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏25‏]‏، وذلك أنك ما جزيت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون وقال تعالى‏:‏ ‏{وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شيئًا إِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ ‏[‏آل عمران120‏]‏‏.‏
وإن أرادوا أن ينكروا بما شاءوا من حجج عقلية أو سمعية فأنا أجيبهم إلى ذلك كله وأبينه بيانا يفهمه الخاص والعام أن الذي أقوله هو الموافق لضرورة العقل والفطرة وأنه الموافق للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، وأن المخالف لذلك هو المخالف لصريح المعقول وصحيح المنقول، فلو كنت أنا المبتدىء بالإنكار والتحديث بمثل هذا لكانت الحجة متوجهة عليهم، فكيف إذا كان الغير هو المبتدئ بالإنكار‏
{وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 41‏]‏، الآيتين ‏{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 171 173‏]‏ ‏{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 51‏].
 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وعلى سائر الجماعة، وتخص بدر الدين بأكرم تحية وسلام وتوقفه على هذه الأوراق إن شئت فإنه كان يقول في بعض الأمور ما عن المحبوب سر محجوب وبشر بكل

 

ص -247-   ما يسر الله به عباده المؤمنين وينتقم به من الكافرين والمنافقين فإني أعرف جملا مما يتجرعه هو وذووه من أهل الترؤس بالباطل من ذوي الكذب والمحال والله ناصر دينه وناصر عباده المؤمنين على مناويهم بالباطل، لكن ليس هذا موضع الأخبار بتفاصيل سارة، والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم‏.