ابن تيمية : حقيقة مذهب الاتحاديين ووحدة الوجود


ص -134-   وقال شيخ الإسلام‏: ‏أحمد بن تيمية قدس الله روحه‏:  بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله الأحد الحق المبين‏.‏ وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خاتم النبيين، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرا، وعلى سائر إخوانه المرسلين‏.‏
أما بعد‏:
فقد وصل كتابك، تلتمس فيه بيان مذهب هؤلاء الاتحادية وبيان بطلانه، وإنك كنت قد سمعت مني بعض البيان لفساد قولهم، وضاق الوقت بك عن استتمام بقية البيان، وأعجلك السفر، حتى رأيت عندكم بعض من ينصر قولهم، ممن ينتسب إلى الطريقة والحقيقة، وصادف مني كتابك موقعًا، ووجدت محلا قابلا‏.‏
وقد كتبت بما أرجو أن ينفع الله به المؤمنين، ويدفع به بأس هؤلاء



 

ص -135-   الملاحدة المنافقين، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته المخلوقات والمنزلات في كتابه المبين، ويبين الفرق بين ما عليه أهل التحقيق واليقين، من أهل العلم والمعرفة المهتدين، وبين ما عليه هؤلاء الزنادقة المتشبهين بالعارفين، كما تشبه بالأنبياء من تشبه من المتنبئين، كما شبهوا بكلام الله ما شبهوه به من الشعر المفتعل وأحاديث المفترين؛ ليتبين أن هؤلاء من جنس الكفار المنافقين المرتدين، أتباع فرعون والقرامطة الباطنيين، وأصحاب مسيلمة والعنسى ونحوهما من المفترين، وأن أهل العلم والإيمان من الصديقين والشهداء والصالحين، سواء كانوا من المقربين السابقين، أو من المقتصدين أصحاب اليمين، هم من أتباع إبراهيم الخليل، وموسى الكليم، ومحمد المبعوث إلى الناس أجمعين‏.‏
قد فرق الله في كتابه المبين الذي جعله حاكما بين الناس فيما اختلفوا فيه من الحق، بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والمؤمنين والكافرين، وقال تعالى‏: ‏
{‏أمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ‏}‏‏[‏الجاثية‏: ‏12‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏‏[‏ص‏: ‏82‏]‏، وقال‏: ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏‏[‏القلم‏: ‏35، 36‏]‏وقد بين حال من تشبه بالأنبياء وبأهل العلم والإيمان، من أهل الكذب والفجور الملبوس عليهم اللابسين، وأخبر أن لهم تنزلًا ووحيا ولكن من الشياطين، فقال‏: ‏‏{‏وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أوليآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏121‏]‏،

 

ص -136-   وقال تعالى‏: ‏‏{‏هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ‏}‏‏[‏الشعراء‏: 221، 222‏]‏‏.‏
وأخبر أن كل من ارتد عن دين الله فلابد أن يأتي الله بَدَلَه بمن يقيم دينه المبين، فقال‏:
‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَل ِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏54‏]‏‏.‏
وذلك أن مذهب هؤلاء الملاحدة فيما يقولونه من الكلام، وينظمونه من الشعر بين حديث مفترى، وشعر مفتعل، وإليهما أشار أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما قال له عمر بن الخطاب في بعض ما يخاطبه به‏: يا خليفة رسول الله، تألف الناس‏.‏ فأخذ بلحيته وقال‏: يا بن الخطاب، أجبارًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام‏؟‏ علام أتألفهم‏؟‏ أعلى حديث مفترى أم شعر مفتعل‏؟‏ يقول‏: إني لست أدعوهم إلى حديث مفترى كقرآن مسيلمة، ولا شعر مفتعل كشعر طليحة الأسدي‏.‏  وهذان النوعان، هما اللذان يعارض بهما القرآن أهل الفجور والإفك المبين، قال تعالى‏:
‏‏{‏فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لَا تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏: 38: 43‏]‏،

 

ص -137-   وقال تعالى‏: ‏‏{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ‏}‏ [الشعراء: 192،193]، إلى قوله‏: ‏‏{‏وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ‏}‏ إلى آخر السورة‏.‏
فذكر في هذه السورة علامة الكهان الكاذبين، والشعراء الغاوين، ونزهه عن هذين الصنفين، كما في سورة الحاقة‏.‏ وقال تعالى‏: ‏
{‏إنَّهٍ لّقّوًلٍ رّسٍولُ كّرٌيمُ‏.‏ ذٌي قٍوَّةُ عٌندّ ذٌي بًعّرًشٌ مّكٌينُ َ‏}‏إلى آخر السورة‏.‏ فالرسول هنا جبريل، وفي الآية الأولى محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا نزه محمدًا هناك عن أن يكون شاعرًا أو كاهنا، ونزه هنا الرسول إليه أن يكون من الشياطين‏.‏

ص -138-   فصل‏:
اعلم هداك الله وأرشدك أن تصور مذهب هؤلاء كاف في بيان فساده، لا يحتاج مع حسن التصور إلى دليل آخر، وإنما تقع الشبهة؛ لأن أكثر الناس لا يفهمون حقيقة قولهم وقصدهم، لما فيه من الألفاظ المجملة والمشتركة، بل وهم أيضا لا يفهمون حقيقة ما يقصدونه ويقولونه، ولهذا يتناقضون كثيرًا في قولهم، وإنما ينتحلون شيئا ويقولونه أو يتبعونه‏.‏
ولهذا قد افترقوا بينهم على فرق، ولا يهتدون إلى التمييز بين فرقهم، مع استشعارهم أنهم مفترقون‏:
ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون‏.‏
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين‏: إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علوًا في الأرض وفسادًا، أو جامع بين الوصفين، وهذه حال

 

ص -139-   أتباع فرعون الذين قال الله فيهم‏: ‏{‏فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏54‏]‏
وحال القرامطة مع رؤسائهم‏.‏  وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ‏
{‏إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا‏}‏
إلى قوله‏: ‏‏{‏وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: ‏64-68‏]‏ وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏165-167‏]‏‏.‏

ص -140-   فصل‏:
حقيقة قول هؤلاء‏: أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال‏: هم قائلون بالحلول رأوه محجوبًا عن معرفة قولهم، خارجا عن الدخول إلى باطن أمرهم؛ لأن من قال‏: إن الله يحل في المخلوقات، فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجودين‏:
أحدهما‏: وجود الحق الحال‏.‏
والثاني‏: وجود المخلوق المحل، وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة‏.‏
ولا ريب أن هذا القول أقل كفرًا من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان‏.‏ وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة كابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة‏.‏ وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم‏.‏
ولا ريب أن إلحاد هؤلاء المتأخرىن وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها‏.‏

ص -141-   وأما وجه تسميتهم اتحادية ففيه طريقان‏: أحدهما‏: لا يرضونه؛ لأن الاتحاد على وزن الاقتران، والاقتران يقتضي شيئين اتحد أحدهما بالآخر، وهم لا يقرون بوجودين أبدًا والطريق الثاني‏: صحة ذلك بناء على أن الكثرة صارت وحدة كما سأبينه من اضطرابهم‏.‏
وهذه الطريقة إما على مذهب ابن عربي، فإنه يجعل الوجود غير الثبوت ويقول‏: إن وجود الحق قاض على ثبوت الممكنات، فيصح الاتحاد بين الوجود والثبوت‏.‏ وأما على قول من لا يفرق فيقول‏: إن الكثرة الخيالية صارت وحدة بعد الكشف، أو الكثرة العينية صارت وحدة إطلاقية‏.‏

ص -142-   فصل‏:
ولما كان أصلهم الذي بنوا عليه‏: أن وجود المخلوقات والمصنوعات، حتى وجود الجن والشياطين، والكافرين والفاسقين، والكلاب والخنازير، والنجاسات والكفر، والفسوق والعصيان‏: عين وجود الرب، لا أنه متميز عنه منفصل عن ذاته، وإن كان مخلوقا له مربوبًا مصنوعا له قائمًا به‏.‏
وهم يشهدون أن في الكائنات تفرقا وكثرة ظاهرة بالحس والعقل، فاحتاجوا إلى جمع يزيل الكثرة، ووحدة ترفع التفرق مع ثبوتها، فاضطربوا على ثلاث مقالات أنا أبينها لك وإن كانوا هم لا يبين بعضهم مقالة نفسه ومقالة غيره؛ لعدم كمال شهود الحق وتصوره‏.‏

ص -143-    المقالة الأولى‏: مقالة ابن عربي صاحب فصوص الحكم‏:
وهي مع كونها كفرًا فهو أقربهم إلى الإسلام؛ لما يوجد في كلامه من الكلام الجيد كثيرًا، ولأنه لا يثبت على الاتحاد ثبات غيره، بل هو كثير الاضطراب فيه، وإنما هو قائم مع خياله الواسع الذي يتخيل فيه الحق تارة والباطل أخرى‏.‏ والله أعلم بما مات عليه، فإن مقالته مبنية على أصلين‏:
أحدهما‏: أن المعدوم شيء ثابت في العدم، موافقة لمن قال ذلك من المعتزلة والرافضة‏.‏
وأول من ابتدع هذه المقالة في الإسلام‏: أبو عثمان الشحام شيخ أبي على الجبائي، وتبعه عليها طوائف من القدرية المبتدعة من المعتزلة والرافضة، وهؤلاء يقولون‏: إن كل معدوم يمكن وجوده فإن حقيقته وماهيته وعينه ثابتة في العدم؛ لأنه لولا ثبوتها لما تميز عن المعلوم المخبر عنه من غير المعلوم المخبر عنه، ولما صح قصد ما يراد إيجاده؛ لأن القصد يستدعى التمييز، والتمييز لا يكون إلا في شيء ثابت‏.‏
لكن هؤلاء وإن ابتدعوا هذه المقالة التي هي باطلة في نفسها، وقد كفرهم

 

ص -144-   بها طوائف من متكلمة السنة فهم يعترفون بأن الله خلق وجودها، ولا يقولون‏: إن عين وجودها عين وجود الحق‏.‏
وأما صاحب الفصوص وأتباعه فيقولون‏: عين وجودها عين وجود الحق، فهي متميزة بذواتها الثابته في العدم، متحدة بوجود الحق القائم بها‏.‏ وعامة كلامه ينبني على هذا لمن تدبره وفهمه‏.‏
وابن عربي إذا جعل الأعيان ثابتة لزمه وجود كل ممكن، وليس هذا قول المعتزلة، فهذا فرق ثالث‏.‏
وهؤلاء القائلون بأن المعدوم شيء ثابت في العدم سواء قالوا بأن وجودها خلق لله أو هو الله يقولون‏: إن الماهيات والأعيان غير مجعولة ولا مخلوقة، وإن وجود كل شيء قدر زائد على ماهيته، وقد يقولون‏: الوجود صفة للموجود‏.‏
وهذا القول وإن كان فيه شبه بقول القائلين بقدم العالم، أو القائلين بقدم مادة العالم وهيولاه المتميزة عن صورته، فليس هو إياه، وإن كان بينهما قدر مشترك، فإن هذه الصورة المحدثة من الحيوانات والنبات والمعادن ليست قديمة باتفاق جميع العقلاء، بل هي كائنة بعد أن لم تكن
وكذلك الصفات والأعراض القائمة بأجسام السموات، والاستحالات القائمة بالعناصر، من حركات الكواكب، والشمس والقمر والسحاب

 

ص -145-   والمطر، و الرعد والبرق وغير ذلك، كل هذا حادث غير قديم، عند كل ذي حس سليم، فإنه يرى ذلك بعينه‏.‏
والذين يقولون بأن عين المعدوم ثابتة في القدم أو بأن مادته قديمة، يقولون بأن أعيان جميع هذه الأشياء ثابتة في القدم، ويقولون‏: إن مواد جميع العالم قديمة دون صوره‏.‏
واعلم أن المذهب إذا كان باطلا في نفسه، لم يمكن الناقد له أن ينقله على وجه يتصور تصورًا حقيقيا، فإن هذا لا يكون إلا للحق‏.‏ فأما القول الباطل فإذا بُيِّن فبيانه يظهر فساده، حتى يقال‏: كيف اشتبه هذا على أحد ويتعجب من اعتقادهم إياه، ولا ينبغي للإنسان أن يعجب، فما من شيء يتخيل من أنواع الباطل إلا وقد ذهب إليه فريق من الناس؛ ولهذا وصف الله أهل الباطل بأنهم أموات وأنهم ‏
{‏صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏18‏]‏، وأنهم ‏{‏لا يفقهون‏}‏، وأنهم ‏{‏لا يعقلون‏}‏وأنهم‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏‏[‏الذاريات‏: ‏8، 9‏]‏، وأنهم‏{‏فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏45‏]‏، وأنهم ‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏‏[‏البقرة‏: 15‏]‏‏.‏
وإنما نشأ والله أعلم الاشتباه على هؤلاء من حيث رأوا أن الله سبحانه يعلم ما لم يكن قبل كونه، أو‏: ‏‏
{‏إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏82‏]‏، فرأوا أن المعدوم الذي يخلقه يتميز في علمه وإرادته وقدرته، فظنوا ذلك لتميز ذات له ثابتة وليس الأمر كذلك‏.‏
وإنما هو متميز في علم الله وكتابه، والواحد منا يعلم الموجود، والمعدوم

 

ص -146-   الممكن، والمعدوم المستحيل، ويعلم ما كان كآدم والأنبياء، ويعلم ما يكون كالقيامة والحساب، ويعلم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما يعلم ما أخبر الله به عن أهل النار، ‏{‏وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏28‏]‏، وأنهم ‏{‏وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏23‏]‏، وأنه ‏{‏لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏22‏]‏، وأنه ‏{‏لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا‏}‏‏[‏الإسراء‏: ‏42‏]‏، وأنهم ‏{‏لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏47‏]‏، وأنه‏{‏وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عليكم وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏النور‏: ‏21‏]‏، ونحو ذلك من الجمل الشرطية التي يعلم فيها انتفاء الشرط أو ثبوته‏.‏
فهذه الأمور التي نعلمها نحن ونتصورها، إما نافين لها أو مثبتين لها في الخارج أو مترددين، ليس بمجرد تصورنا لها يكون لأعيانها ثبوت في الخارج عن علمنا وأذهاننا، كما نتصور جبل ياقوت وبحر زئبق، وإنسانًا من ذهب وفرسًا من حجر‏.‏ فثبوت الشيء في العلم والتقدير ليس هو ثبوت عينه في الخارج، بل العالم يعلم الشيء ويتكلم به ويكتبه وليس لذاته في الخارج ثبوت ولا وجود أصلا‏.‏
وهذا هو تقدير الله السابق لخلقه، كما في صحيح مسلم‏: عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏"‏إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة‏"‏‏.‏
وفي سنن أبي داود‏: عن عبادة بن الصامت، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏أول ما خلق الله القلم فقال‏: اكتب‏.‏ قال‏: رب، وما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب

 

ص -147-   ما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏، وقال ابن عباس‏: ‏إن الله خلق الخلق وعلم ما هم عاملون، ثم قال لعلمه‏: كن كتابا فكان كتابا‏؟‏ ثم أنزل تصديق ذلك في كتابه فقال‏: ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏70‏]‏
وهذا هو معنى الحديث الذي رواه أحمد في مسنده عن ميسرة الفجر قال‏: قلت‏: يا رسول الله، متى كنت نبيا‏؟‏ وفي رواية‏: متى كتبت نبيا‏؟‏ قال‏:
‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏، هكذا لفظ الحديث الصحيح‏.‏
وأما ما يرويه هؤلاء الجهال كابن عربي في الفصوص وغيره من جهال العامة‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء و الطين‏"‏، ‏"‏كنت نبيا وآدم لا ماء ولا طين‏"‏‏.‏ فهذا لا أصل له ولم يروه أحد من أهل العلم الصادقين، ولا هو في شيء من كتب العلم المعتمدة بهذا اللفظ، بل هو باطل، فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط، فإن الله خلقه من تراب، وخلط التراب بالماء حتى صار طينًا، وأيبس الطين حتى صار صَلْصَالًا كالفَخَّار، فلم يكن له حال بين الماء والطين مركب من الماء والطين، ولو قيل‏: بين الماء والتراب لكان أبعد عن المحال، مع أن هذا الحال لا اختصاص لها، وإنما قال‏: ‏"
‏بين الروح والجسد‏"‏، وقال‏: ‏"‏وإن آدم لمنجدل في طينته‏"‏؛ لأن جسد آدم بقى أربعين سنة قبل نفخ الروح فيه، كما قال تعالى‏: ‏{‏هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ‏}‏ الآية ‏[‏الإنسان‏: ‏1‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ‏}‏ الآيتين ‏[‏الحجر‏: 28‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ‏}‏ الآيتين ‏[‏السجدة‏: ‏7‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ‏} ‏الآية ‏[‏ص‏: ‏71‏]‏‏.‏

 

ص -148-   والأحاديث في خلق آدم ونفخ الروح فيه مشهورة في كتب الحديث والتفسير وغيرهما‏.‏
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كان نبيا، أي‏: كتب نبيا وآدم بين الروح والجسد‏.‏ وهذا والله أعلم لأن هذه الحالة فيها يقدر التقدير الذييكون بأيدي ملائكة الخلق، فيقدر لهم ويظهر لهم، ويكتب ما يكون من المخلوق قبل نفخ الروح فيه، كما أخرج الشيخان في الصحيحين وفي سائر الكتب الأمهات‏: حديث الصادق المصدوق، وهو من الأحاديث المستفيضة، التي تلقاها أهل العلم بالقبول وأجمعوا على تصديقها، وهو حديث الأعمش عن زيد بن وهب عن عبد الله بن مسعود قال‏: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق‏:
‏"‏إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله الملك فيؤمر بأربع كلمات فيقال‏: اكتب رزقه وأجله وعمله وشقى أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح‏"‏، وقال‏: ‏"‏فوالذي نفسي بيده، إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة‏"‏‏.‏ فلما أخبر الصادق المصدوق أن الملك يكتب رزقه وعمله وأجله وشقى أو سعيد بعد خلق الجسد وقبل نفخ الروح‏.‏ وآدم هو أبو البشر كان أيضا من المناسب لهذا أن يكتب بعد خلق جسده، وقبل نفخ الروح فيه ما يكون

ص -149-   منه، ومحمد صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم فهو أعظم الذرية قدرًا وأرفعهم ذكرًا‏.‏
فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه كتب نبيا حينئذ، وكتابة نبوته هو معنى كون نبوته، فإنه كون في التقدير الكتابي، ليس كونا في الوجود العيني؛ إذ نبوته لم يكن وجودها حتى نبأه الله تعالى على رأس أربعين سنة من عمره صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى له‏: ‏‏
{‏وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏: ‏52‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى‏}‏ الآية‏[‏الضحى‏: ‏6‏]‏‏.‏ وقال‏: ‏‏{‏نَحْنُ نَقُصُّ عليك أَحْسَنَ الْقَصَصِ‏}‏ الآية ‏[‏يوسف‏: ‏3‏]‏‏.‏
ولذلك جاء هذا المعنى مفسرًا في حديث العرباض بن سارية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏
"‏إني عبد الله مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأخبركم بأول أمري‏: دعوة إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت حين وضعتني وقد خرج لها نور أضاءت لها منه قصور الشام‏"‏، هذا لفظ الحديث من رواية ابن وهب‏.‏
حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سويد عن عبد الأعلى بن هلال السلمي عن العرباض، رواه البغوي في شرح السنة هكذا، ورواه الليث بن سعد عنه نحوه، ورواه الإمام أحمد في المسند عن ابن مهدي‏: حدثنا معاوية بن صالح بالإسناد عن العرباض قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏
"‏إني عبد الله خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك‏: دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى، ورؤيا أمي التي رأت، وكذلك أمهات النبيين يرين‏"‏، وقوله‏:

 

ص -150-   ‏‏"‏لمنجدل في طينته‏"‏ أي‏: ملتف ومطروح على وجه الأرض صورة من طين لم تجر فيه الروح بعد‏.‏
وقد روى أن الله كتب اسمه على العرش وعلى ما في الجنة من الأبواب والقباب والأوراق، وروي في ذلك عدة آثار توافق هذه الأحاديث الثابتة، التي تبين التنويه باسمه وإعلاء ذكره حينئذ‏.‏
وقد تقدم لفظ الحديث الذي في المسند عن ميسرة الفجر لما قيل له‏: متى كنت نبيا‏؟‏ قال‏: ‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏، وقد رواه أبو الحسين بن بِشْرَان من طريق الشيخ أبي الفرج ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى صلى الله عليه وسلم‏: ‏حدثنا أبو جعفر محمد بن عمرو، حدثنا أحمد بن إسحاق بن صالح، ثنا محمد بن صالح، ثنا محمد بن سنان العوفي، ثنا إبراهيم بن طهمان، عن يزيد بن ميسرة، عن عبد الله بن سفيان، عن ميسرة قال‏: قلت‏: يا رسول الله، متى كنت نبيا‏؟‏ قال
‏: ‏"‏لما خلق الله الأرض واستوى إلى السماء فسواهن سبع سموات، وخلق العرش، كتب على ساق العرش‏: محمد رسول الله خاتم الأنبياء، وخلق الله الجنة التي أسكنها آدم وحواء، فكتب اسمي على الأبواب والأوراق، والقباب والخيام وآدم بين الروح والجسد، فلما أحياه الله تعالى، نظر إلى العرش فرأى اسمى فأخبره الله أنه سيد ولدك، فلما غرهما الشيطان تابا واستشفعا باسمي إليه‏"‏‏.‏
وروى أبو نعيم الحافظ في كتاب دلائل النبوة، ومن طريق الشيخ أبي الفرج‏: حدثنا سليمان بن أحمد، ثنا أحمد بن رِشْدِين، ثنا أحمد بن سعيد الفهري،

 

ص -151-   حدثنا عبد الله بن إسماعيل المدني، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏لما أصاب آدم الخطيئة رفع رأسه فقال‏: يارب، بحق محمد إلا غفرت لي، فأوحى إليه وما محمد‏؟‏ ومن محمد‏؟‏ فقال‏: يا رب، إنك لما أتممت خلقي رفعت رأسي إلى عرشك، فإذا عليه مكتوب‏: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فعلمت أنه أكرم خلقك عليك؛ إذ قرنت اسمه مع اسمك‏.‏ فقال‏: نعم، قد غفرت لك وهو آخر الأنبياء من ذريتك ولولاه ما خلقتك‏"‏، فهذا الحديث يؤيد الذي قبله وهما كالتفسير للأحاديث الصحيحة‏.‏
وفي الصحيحين عن عائشة قالت‏: أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة، وكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يأتى غار حِراء فيتحنَّثُ فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى فجأه الحق، وهو بحراء، فأتاه الملك فقال له‏: اقرأ‏.‏ قال‏: ‏"‏لست بقاريء‏"‏‏.‏ قال‏: ‏"‏فأخذني فغَطَّنِي حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال‏: اقرأ‏.‏ فقلت‏: لست بقاريء‏"‏ قال‏: ‏"‏فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال‏: اقرأ‏.‏ فقلت‏: ‏لست بقارئ، ثم أخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني‏"‏، فقال‏:
‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏ ‏[‏سورة العلق‏]‏ فرجع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترجف بوادره‏.‏ الحديث بطوله‏.‏
فقد أخبر في هذا الحديث الصحيح أنه لم يكن قارئا، وهذه السورة أول ما أنزل الله عليه وبها صار نبيًا، ثم أنزل عليه سورة المدثر، وبها صار

 

ص -152-   رسولا لقوله‏: ‏‏{‏قُمْ فَأَنذِرْ‏}‏ ‏[‏المدثر‏: ‏2‏]‏؛ ولهذا ذكر سبحانه في هذه السورة الوجود العيني والوجود العلمي، وهذا أمر بين، يعقله الإنسان بقلبه لا يحتاج فيه إلى سمع، فإن الشيء لا يكون قبل كونه‏.‏
وأما كون الأشياء معلومة لله قبل كونها، فهذا حق لا ريب فيه، وكذلك كونها مكتوبة عنده أو عند ملائكته، كما دل على ذلك الكتاب والسنة وجاءت به الآثار‏.‏
وهذا العلم والكتاب هو القدر الذي ينكره غالية القدرية، ويزعمون أن الله لا يعلم أفعال العباد إلا بعد وجودها وهم كفار، كفَّرهم الأئمة كالشافعي وأحمد وغيرهما‏.‏
وقد بين الكتاب والسنة هذا القدر، وأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال الوارد عليه، وهو ترك العمل لأجله، فأجاب صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال‏: كنا في جنازة في بَقِيع الغَرْقد، فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله، ومعه مِخْصَرة فنكس، فجعل ينكت بمخصرته ثم قال‏
: ‏"‏ما منكم من أحد‏"‏ أو قال ‏"‏ما من نفس منفوسة إلا قد كتب الله مكانها من الجنة والنار، وإلا قد كتبت شقية أو سعيدة‏"‏‏.‏ قال‏: فقال رجل‏: ‏يا رسول الله، أفلا نمكث على كتابنا وندع العمل، فمن كان من أهل السعادة فسيصير إلى عمل أهل السعادة، ومن كان من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة‏؟‏ فقال‏: ‏"‏اعملوا فكل مُيَسر، أما أهل السعادة

 

ص -153-   فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة‏"‏، ثم قرأ‏: ‏‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى‏}‏ ‏[‏الليل‏: ‏5‏]‏ إلى آخر الآيات‏.‏ وفي رواية‏: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم جالسا وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال‏: ‏"‏ما منكم من نفس إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار‏"‏ قالوا‏: يا رسول الله، ففيم العمل‏؟‏ أفلا نتكل‏؟‏ قال‏: ‏"‏لا، اعملوا فكل ميسر لما خلق له‏"‏ ثم قرأ ‏{‏فَأَمَّا مَن أَعْطَى‏}‏ الآية‏.‏ وفي الصحيحين أيضًا عن عمران بن حصين قال‏: قيل‏: يا رسول الله، أَعُلِم أهل الجنة من أهل النار‏؟‏ قال‏: ‏"‏نعم‏"‏ قال‏: فقيل‏: ففيم يعمل العاملون‏؟‏ فقال‏: ‏"‏كل ميسر لما خلق له‏"‏ وفي رواية‏: أن رجلين من مزينة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا‏: يا رسول الله، أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه، أشيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبت الحجة عليهم‏؟‏ فقال‏: ‏"‏لا‏.‏ بل شيء قضى عليهم ومضي فيهم، وتصديق ذلك في كتاب الله‏: ‏{‏وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا‏}‏‏"‏ ‏[‏الشمس‏: ‏7، 8‏]‏‏.‏
وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله قال‏: جاء سراقة بن مالك بن جُعْشُم قال‏: يا رسول الله، بين لنا ديننا كأنا خلقنا الآن، فيم العمل اليوم‏؟‏ أفيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏؟‏ أم فيما يستقبل‏؟‏ قال‏: ‏"‏لا، بل فيما جفت به الأقلام وجرت به المقادير‏"‏‏.‏ قال‏: ففيم العمل‏؟‏ قال‏: ‏"‏اعملوا فكل ميسر‏"‏‏.‏

ص -154-   وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال‏: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏كتب الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة قال‏: وعرشه على الماء‏"‏
وفي سنن أبي داود عن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه‏: يا بني، إنك لن تجد طعم حقيقة الإيمان حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك‏.‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏إن أول ما خلق الله القلم فقال له‏: اكتب، قال‏: رب، ما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة‏"‏‏.‏ يا بني، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏من مات على غير هذا فليس مني‏"‏، ورواه الترمذي من وجه آخر عن الوليد بن عبادة أنه قال‏: دعاني يعني أباه عند الموت فقال‏: يا بني، اتق الله، واعلم أنك إن تتق الله تؤمن بالله وتؤمن بالقدر كله، خيره وشره، وإن مت على غير هذا دخلت النار، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏: ‏"‏إن أول ما خلق الله القلم فقال‏: اكتب، قال‏: ما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب القدر، ما كان وما هو كائن إلى الأبد‏"‏‏.‏
وفي الترمذي أيضا عن أبي خزامة عن أبيه، أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏: أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به وتقاة نتقيها، هل ترد من قدر الله تعالى شيئا‏؟‏ قال‏: ‏"‏هي من قدر الله‏"‏‏.‏
لكن إنما ثبتت في التقدير المعدوم الممكن الذي سيكون، فأما المعدوم

 

ص -155-   الممكن الذي لا يكون فمثل إدخال المؤمنين النار وإقامة القيامة قبل وقتها، وقلب الجبال يواقيت ونحو ذلك، فهذا المعدوم ممكن وهو شيء ثابت في العدم عند من يقول‏: المعدوم شيء، ومع هذا، فليس بمقدر كونه، والله يعلمه على ما هو عليه، يعلم أنه ممكن وأنه لا يكون‏.‏
وكذلك الممتنعات مثل شريك الباري وولده، فإن الله يعلم أنه لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ويعلم أنه ليس له شريك في الملك ولا وليُّ من الذل، ويعلم أنه حي قيوم لا تأخذه سنة ولا نوم، ويعلم أنه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض‏.‏
والذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة عقلاء بني آدم من جميع الأصناف‏: ‏أن المعدوم ليس في نفسه شيئا، وأن ثبوته ووجوده وحصوله شيء واحد، وقد دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع القديم، قال الله تعالى لزكريا‏: ‏
{‏وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏9‏]‏، فأخبر أنه لم يك شيئا، وقال تعالى‏: ‏‏{‏أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا‏}‏‏[‏مريم‏: ‏67‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏‏.‏

ص -156-   فأنكر عليهم اعتقاد أن يكونوا خُلِقوا من غير شيء خلقهم أم خَلَقوا هم أنفسهم، ولهذا قال جبير بن مطعم‏: لما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه السورة أحسست بفؤادي قد انصدع، ولو كان المعدوم شيئا لم يتم الإنكار إذا جاز أن يقال‏: ما خلقوا إلا من شيء، لكن هو معدوم فيكون الخالق لهم شيئا معدوما‏.‏ وقال تعالى‏: ‏‏{‏فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏60‏]‏‏.‏ ولو كان المعدوم شيئا لكان التقدير‏: لا يظلمون موجودًا ولا معدومًا، والمعدوم لا يتصور أن يظلموه فإنه ليس لهم‏.‏
وأما قوله‏:
‏‏{‏إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏1‏]‏ فهو إخبارعن الزلزلة الواقعة أنها شيء عظيم ليس إخبارًا عن الزلزلة في هذه الحال، ولهذا قال‏: ‏{‏يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏2‏]‏، ولو أريد به الساعة لكان المراد به أنها شيء عظيم في العلم والتقدير‏.‏
وقوله تعالى‏: ‏
{‏إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏40‏]‏ قد استدل به من قال‏: المعدوم شيء وهو حجة عليه؛ لأنه أخبر أنه يريد الشيء وأنه يكونه، وعندهم أنه ثابت في العدم وإنما يراد وجوده لا عينه ونفسه، والقرآن قد أخبر أن نفسه تراد وتكون، وهذا من فروع هذه المسألة‏.‏
فإن الذي عليه أهل السنة والجماعة وعامة العقلاء أن الماهيات مجعولة، وأن ماهية كل شيء عين وجوده، وأنه ليس وجود الشيء قدرًا زائدًا على ماهيته، بل ليس في الخارج إلا الشيء الذي هو الشيء وهو عينه ونفسه وماهيته وحقيقته، وليس وجوده وثبوته في
الخارج زائدا على ذلك‏.‏

ص -157-    وأولئك يقولون‏: الوجود قدر زائد على الماهية، ويقولون‏: الماهيات غير مجعولة، ويقولون‏: وجود كل شيء زائد على ماهيته، ومن المتفلسفة من يفرق بين الوجود والواجب والممكن فيقول‏: الوجود الواجب عين الماهية‏.‏ وأما الوجود الممكن فهو زائد على الماهية‏.‏ وشبهة هؤلاء‏: ما تقدم من أن الإنسان قد يعلم ماهية الشيء ولا يعلم وجوده، وأن الوجود مشترك بين الموجودات، وماهية كل شيء مختصة به‏.‏
ومن تدبر تبين له حقيقة الأمر، فإنا قد بينا الفرق بين الوجود العلمي والعيني، وهذا الفرق ثابت في الوجود والعين والثبوت والماهية وغير ذلك، فثبوت هذه الأمور في العلم والكتاب والكلام‏: ليس هو ثبوتها في الخارج عن ذلك، وهو ثبوت حقيقتها وماهيتها التي هي هي، فالإنسان إذا تصور ماهية فقد علم وجودها الذهني، ولا يلزم من ذلك الوجود الحقيقي الخارجي‏.‏ فقول القائل‏: قد تصورت حقيقة الشيء وعينه، ونفسه وماهيته، وما علمت وجوده، أو حصل وجوده العلمي، وما حصل وجوده العيني الحقيقي، ولم يعلم ماهيته الحقيقية، ولا عينه الحقيقية، ولا نفسه الحقيقية الخارجية، فلا فرق بين لفظ وجوده ولفظ ماهيته، إلا أن أحد اللفظين قد يعبر به عن الذهني، والآخر عن الخارجي، فجاء الفرق من جهة المحل لا من جهة الماهية والوجود‏.‏
وأما قولهم‏: إن الوجود مشترك والحقيقة لا اشتراك فيها، فالقول فيه كذلك، فإن الوجود المعين الموجود في الخارج لا اشتراك فيه، كما أن الحقيقة المعينة الموجودة في الخارج لا اشتراك فيها وإنما العلم يدرك الموجود المشترك

 

ص -158-   كما يدرك الماهية المشتركة، فالمشترك ثبوته في الذهن لا في الخارج، وما في الخارج ليس فيه اشتراك البتة، والذهن إن أدرك الماهية المعينة الموجودة في الخارج لم يكن فيها اشتراك، وإنما الاشتراك فيما يدركه من الأمور المطلقة العامة، وليس في الخارج شيء مطلق عام بوصف الإطلاق والعموم، وإنما فيه المطلق لا بشرط الإطلاق، وذلك لا يوجد في الخارج إلا معينا‏.‏
فينبغي للعاقل أن يفرق بين ثبوت الشيء ووجوده في نفسه، وبين ثبوته ووجوده في العلم، فإن ذاك هو الوجود العيني الخارجي الحقيقي، وأما هذا فيقال له‏: الوجود الذهني والعلمي، وما من شيء إلا له هذان الثبوتان، فالعلم يعبر عنه باللفظ ويكتب اللفظ بالخط، فيصير لكل شيء أربع مراتب‏: وجود في الأعيان، ووجود في الأذهان، ووجود في اللسان، ووجود في البنان، وجود عيني، وعلمي، ولفظي، ورسمي‏.‏
ولهذا كان أول ما أنزل الله على نبيه سورة‏: ‏
{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏}‏ ذكر فيها النوعين فقال‏: ‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ‏}‏‏[‏العلق‏: ‏1، 2‏]‏، فذكر جميع المخلوقات بوجودها العيني عموما ثم خصوصا، فخص الإنسان بالخلق بعد ما عم غيره، ثم قال‏: ‏{‏قْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ‏}‏ ‏[‏العلق‏: ‏3‏: 5‏]‏، فخص التعليم للإنسان بعد تعميم التعليم بالقلم، وذكر القلم؛ لأن التعليم بالقلم هو الخط وهو مستلزم لتعليم اللفظ، فإن الخط يطابقه، وتعليم اللفظ هو البيان وهو مستلزم لتعليم العلم؛ لأن العبارة تطابق المعنى‏.‏

ص -159-    فصار تعليمه بالقلم مستلزما للمراتب الثلاث‏: اللفظي، والعلمي، والرسمي، بخلاف ما لو أطلق التعليم أو ذكر تعليم العلم فقط لم يكن ذلك مستوعبا للمراتب‏.‏
فذكر في هذه السورة الوجود العيني والعلمي، وأن الله سبحانه هو معطيهما؛ فهو خالق الخلق وخالق الإنسان، وهو المعلم بالقلم ومعلم الإنسان‏.‏
فأما إثبات وجود الشيء في الخارج قبل وجوده، فهذا أمر معلوم الفساد بالعقل والسمع، وهو مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏

ص -160-   فصل‏:
فهذا أحد أصلي ابن عربي‏.‏ وأما الأصل الآخر فقولهم‏: إن وجود الأعيان نفس وجود الحق وعينه، وهذا انفردوا به عن جميع مثبتة الصانع من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمشركين، وإنما هو حقيقة قول فرعون والقرامطة المنكرين لوجود الصانع، كما سنبينه إن شاء الله‏.‏
فمن فهم هذا فهم جميع كلام ابن عربي، نظمه ونثره، وما يدعيه من أن الحق يغتذي بالخلق؛ لأن وجود الأعيان مغتذ بالأعيان الثابتة في العدم، ولهذا يقول بالجمع من حيث الوجود، وبالفرق من حيث الماهية والأعيان، ويزعم أن هذا هو سر القدر؛ لأن الماهيات لا تقبل إلا ما هو ثابت لها في العدم في أنفسها، فهي التي أحسنت وأساءت وحمدت وذمت، والحق لم يعطها شيئاً إلا ما كانت عليه في حال العدم‏.‏
فتدبر كلامه كيف انتظم شيئين‏: إنكار وجود الحق، وإنكار خلقه لمخلوقاته، فهو منكر للرب الذي خلق فلا يقر برب ولا بخلق، ومنكر لرب العالمين، فلا رب ولا عالمون مربوبون، إذ ليس إلا أعيان ثابتة، ووجود قائم بها، فلا الأعيان مربوبة ولا الوجود مربوب، ولا الأعيان مخلوقة ولا الوجود مخلوق‏.‏وهذا يفرق بين المظاهر والظاهر والمجلى والمتجلي؛ لأن المظاهر عنده هي الأعيان الثابته في العدم، وأما الظاهر فهو وجود الخلق‏.‏

ص -161-   فصل‏:
وأما صاحبه الصدر الفخر الرومي فإنه لا يقول‏: ‏إن الوجود زائد على الماهية، فإنه كان أدخل في النظر والكلام من شيخه، لكنه أكفر وأقل علماً وإيماناً، وأقل معرفة بالإسلام وكلام المشايخ،ولما كان مذهبهم كفراً كان كل من حذق فيه كان أكفر‏.‏فلما رأى أن التفريق بين وجود الأشياء وأعيانها لا يستقيم، وعنده أن الله هو الوجود، ولابد من فرق بين هذا وهذا، فرق بين المطلق والمعين، فعنده أن الله هو الوجود المطلق الذي لا يتعين ولا يتميز، وأنه إذا تعين وتميز فهو الخلق، سواء تعين في مرتبة الإلهية أو غيرها‏.‏
وهذا القول قد صرح فيه بالكفر أكثر من الأول، وهو حقيقة مذهب فرعون والقرامطة، وإن كان الأول أفسد من جهة تفرقته بين وجود الأشياء وثبوتها، وذلك أنه على القول الأول يمكن أن يجعل للحق وجوداً خارجاً عن أعيان الممكنات، وأنه فاض عليها، فيكون فيه اعتراف بوجود الرب القائم بنفسه الغني عن خلقه، وإن كان فيه كفر من جهة أنه جعل المخلوق هو الخالق، والمربوب هو الرب، بل لم يثبت خلقا أصلا، ومع هذا فما رأيته صرح بوجود الرب متميزاً عن الوجود القائم بأعيان الممكنات‏.‏

ص -162-   وأما هذا فقد صرح بأنه ما ثم سوى الوجود المطلق الساري في الموجودات المعينة، والمطلق ليس له وجود مطلق، فما في الخارج جسم مطلق بشرط الإطلاق، ولا إنسان مطلق، ولا حيوان مطلق بشرط الإطلاق، بل لا يوجد إلا في شيء معين‏.‏
والحقائق لها ثلاث اعتبارات‏: اعتبار العموم والخصوص والإطلاق‏.‏
فإذا قلنا‏: حيوان عام أو إنسان عام، أو جسم عام، أو وجود عام، فهذا لا يكون إلا في العلم واللسان، وأما الخارج عن ذلك فما ثم شيء موجود في الخارج يعم شيئين؛ ولهذا كان العموم من عوارض صفات الحي‏.‏ فيقال‏: علم عام، وإرادة عامة، وغضب عام، وخبر عام، وأمر عام‏.‏ويوصف صاحب الصفة بالعموم أيضا كما في الحديث الذي في سنن أبي داود‏: أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بعلي وهو يدعو فقال‏: ‏"‏ يا علي، عُمَّ، فإن فضل العموم على الخصوص كفضل السماء على الأرض‏"‏،وفي الحديث أنه لما نزل قوله‏:
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏214‏]‏ عم وخص،رواه مسلم من حديث موسى بن طلحة عن أبي هريرة‏.‏
وتوصف الصفة بالعموم كما في حديث التشهد‏: ‏‏"‏السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ فإذا قلتم ذلك فقد أصابت كل عبد صالح لله في السماء والأرض‏"‏ وأما إطلاق من أطلق أن العموم من عوارض الألفاظ فقط، فليس كذلك؛ إذ معاني الألفاظ القائمة بالقلب أحق بالعموم من الألفاظ، وسائر

 

ص -163-   الصفات، كالإرادة، والحب، والبغض، والغضب، والرضا يعرض لها من العموم والخصوص ما يعرض للقول، وإنما المعاني الخارجة عن الذهن هي الموجودة في الخارج، كقولهم‏: مطر عام وخصب عام، هذه التي تنازع الناس‏: هل وصفها بالعموم حقيقة أو مجازاً ‏؟‏ على قولين‏:
أحدهما‏: مجاز؛ لأن كل جزء من أجزاء المطر والخصب لا يقع إلا حيث يقع الآخر، فليس هناك عموم، وقيل‏: ‏بل حقيقة؛ لأن المطر المطلق قد عم‏.‏
وأما الخصوص فيعرض لها إذا كانت موجودة في الخارج، فإن كل شيء له ذات وعين تختص به ويمتاز بها عن غيره‏: أعني الحقيقة العينية الشخصية التي لا اشتراك فيها، مثل‏: هذا الرجل وهذه الحبة وهذا الدرهم، وما عرض لها في الخارج فإنه يعرض لها في الذهن‏.‏ فإن تصور الذهنية أوسع من الحقائق الخارجية، فإنها تشمل الموجود والمعدوم والممتنع والمقدرات‏.‏
وأما الإطلاق فيعرض لها إذا كانت في الذهن بلا ريب، فإن العقل يتصور إنساناً مطلقاً ووجوداً مطلقاً‏.‏
وأما في الخارج فهل يتصور شيء مطلق ‏؟‏ هذا فيه قولان، قيل‏: ‏المطلق له وجود في الخارج، فإنه جزء من المعين، وقيل‏: لا وجود له في الخارج؛ إذ ليس في الخارج إلا معين مقيد،والمطلق الذي يشترك فيه العدد لا يكون جزءًا من المعين الذي لا يشركه فيه‏.‏
والتحقيق‏: أن المطلق بلا شرط أصلا يدخل فيه المقيد المعين، وأما المطلق

 

ص -164-   بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المعين المقيد، وهذا كما يقول الفقهاء‏: الماء المطلق، فإنه بشرط الإطلاق فلا يدخل فيه المضاف، وأما المطلق لا بشرط فيدخل فيه المضاف‏.‏
فإذا قلنا‏: الماء ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏: طهور، وطاهر،ونجس،فالثلاثة أقسام الماء‏.‏ الطهور هو الماء المطلق الذي لا يدخل فيه ما ليس بطهور كالعصارات والمياه النجسة،فالماء المقسوم هو المطلق لا بشرط، والماء الذي هو قسيم للمائين هو المطلق بشرط الإطلا‏.‏
لكن هذا الإطلاق والتقييد الذي قاله الفقهاء في اسم الماء إنما هو في الإطلاق والتقييد اللفظي وهو ما دخل في اللفظ المطلق كلفظ ماء، أو في اللفظ المقيد كلفظ ماء نجس، أو ماء ورد‏.‏
وأما ما كان كلامنا فيه أولاً فإنه الإطلاق والتقييد في معاني اللفظ، ففرق بين النوعين، فإن الناس يغلطون لعدم التفريق بين هذين غلطاً كثيراً جداً، وذلك أن كل اسم فإما أن يكون مسماه معيناً لا يقبل الشركة، كأنا وهذا وزيد، ويقال له‏: المعين والجزء، وإما أن يقبل الشركة فهذا الذي يقبل الشركة هو المعنى الكلي المطلق، وله ثلاث اعتبارات كما تقدم‏.‏
وأما اللفظ المطلق والمقيد فمثال‏: تحرير رقبة، ولم تجدوا ماء، وذلك أن المعنى قد يدخل في مطلق اللفظ، ولا يدخل في اللفظ المطلق، أي يدخل في اللفظ لا بشرط الإطلاق، ولا يدخل في اللفظ بشرط الإطلاق، كما قلنا

 

ص -165-    في لفظ الماء، فإن الماء يطلق على المني وغيره كما قال‏: ‏‏{‏ مِن مَّاء دَافِقٍ ‏}‏ ‏[‏الطارق‏: ‏6‏]‏، ويقال‏: ماء الورد، لكن هذا لا يدخل في الماء عند الإطلاق، لكن عند التقييد، فإذا أخذ القدر المشترك بين لفظ الماء المطلق ولفظ الماء المقيد فهو المطلق بلا شرط الإطلاق، فيقال‏: الماء ينقسم إلى مطلق ومضاف، ومورد التقسيم ليس له اسم مطلق، لكن بالقرينة يقتضي الشمول والعموم، وهو قولنا‏: الماء ثلاثة أقسام‏.‏ فهنا أيضا ثلاثة أشياء‏: مورد التقسيم وهو الماء العام وهو المطلق بلا شرط، لكن ليس له لفظ مفرد إلا لفظ مؤلف، والقسم المطلق وهو اللفظ بشرط إطلاقه، والثاني اللفظ المقيد وهو اللفظ بشرط تقييده‏.‏
وإنما كان كذلك؛لأن المتكلم باللفظ إما أن يطلقه أو يقيده، ليس له حال ثالثة، فإذا أطلقه كان له مفهوم، وإذا قيده كان له مفهوم، ثم إذا قيده إما أن يقيده بقيد العموم أو بقيد الخصوص،فقيد العموم كقوله‏: الماء ثلاثة أقسام، وقيد الخصوص كقوله‏: ماء الورد‏.‏
وإذا عرف الفرق بين تقييد اللفظ وإطلاقه، وبين تقييد المعنى وإطلاقه، عرف أن المعنى له ثلاثة أحوال‏: إما أن يكون أيضا مطلقا، أو مقيداً بقيد العموم، أو مقيداً بقيد الخصوص‏.‏
والمطلق من المعاني نوعان‏: ‏مطلق بشرط الإطلاق، ومطلق لا بشرط‏.‏
وكذلك الألفاظ المطلق منها قد يكون مطلقا بشرط الإطلاق، كقولنا‏: الماء المطلق
 

ص -166-   والرقبة المطلقة، وقد يكون مطلقاً لا بشرط الإطلاق، كقولنا‏: إنسان‏.‏
فالمطلق المقيد بالإطلاق لا يدخل فيه المقيد بما ينافي الإطلاق، فلا يدخل ماء الورد في الماء المطلق، وأما المطلق لا بقيد فيدخل فيه المقيد، كما يدخل الإنسان الناقص في اسم الإنسان‏.‏
فقد تبين أن المطلق بشرط الإطلاق من المعاني ليس له وجود في الخارج، فليس في الخارج إنسان مطلق، بل لابد أن يتعين بهذا أو ذاك، وليس فيه حيوان مطلق، وليس فيه مطر مطلق بشرط الإطلاق‏.‏
وأما المطلق بشرط الإطلاق من الألفاظ كالماء المطلق فمسماه موجود في الخارج؛ لأن شرط الإطلاق هنا في اللفظ، فلا يمنع أن يكون معناه معينا، وبشرط الإطلاق هناك في المعنى،والمسمى المطلق بشرط الإطلاق لا يتصور؛ إذ لكل موجود حقيقة يتيميز بها، وما لا حقيقة له يتميز بها ليس بشيء،وإذا كان له حقيقة يتميز بها فتمييزه يمنع أن يكون مطلقاً من كل وجه،فإن المطلق من كل وجه لا تمييز له،فليس لنا موجود هو مطلق بشرط الإطلاق ولكن العدم المحض قد يقال‏: هو مطلق بشرط الإطلاق، إذ ليس هناك حقيقة تتميز ولا ذات تتحقق، حتى يقال‏: تلك الحقيقة تمنع غيرها بحدها أن تكون إياها‏.‏

ص -167-    وأما المطلق من المعاني لا بشرط‏: فهذا إذا قيل بوجوده في الخارج فإنما يوجد معينا متميزاً مخصوصا، والمعين المخصوص يدخل في المطلق لا بشرط ولا يدخل في المطلق بشرط الإطلاق، إذ المطلق لا بشرط أعم، ولا يلزم إذا كان المطلق بلا شرط موجوداً في الخارج أن يكون المطلق المشروط بالإطلاق موجوداً في الخارج؛ لأن هذا أخص منه‏.‏
فإذا قلنا‏: ‏حيوان، أو إنسان، أو جسم، أو وجود مطلق، فإن عنينا به المطلق بشرط الإطلاق، فلا وجود له في الخارج، وإن عنينا المطلق لا بشرط فلا يوجد إلا معينا مخصوصا، فليس في الخارج شيء إلا معين متميز منفصل عما سواه بحده وحقيقته‏.‏
فمن قال‏: إن وجود الحق هو الوجود المطلق دون المعين، فحقيقة قوله أنه ليس للحق وجود أصلا ولا ثبوت إلا نفس الأشياء المعينة المتميزة، والأشياء المعينة ليست إياه فليس شيئا أصلا‏.‏
وتلخيص النكتة‏: أنه لو عني به المطلق بشرط الإطلاق فلا وجود له في الخارج فلا يكون للحق وجود أصلا، وإن عني به المطلق بلا شرط، فإن قيل بعدم وجوده في الخارج فلا كلام، وإن قيل بوجوده فلا يوجد إلا معينا، فلا يكون للحق وجود إلا وجود الأعيان، فيلزم محذوران‏:
أحدهما‏: أنه ليس للحق وجود سوى وجود المخلوقات‏.‏
والثاني‏: التناقض، وهو قوله‏: إنه الوجود المطلق دون المعين‏.‏

ص -168-   فتدبر قول هذا، فإنه يجعل الحق في الكائنات بمنزلة الكلى في جزئياته، وبمنزلة الجنس والنوع والخاصة، والفصل في سائر أعيانه الموجودة الثابتة في العدم‏.‏
وصاحب هذا القول يجعل المظاهر والمراتب في المتعينات، كما جعلها الأول في الأعيان الثابتة في العدم‏.‏

ص -169-   فصل‏:
وأما التلمساني ونحوه، فلا يفرق بين ماهية ووجود، ولا بين مطلق ومعين بل عنده ما ثم سوى ولا غير بوجه من الوجوه، وإنما الكائنات أجزاء منه وأبعاض له، بمنزلة أمواج البحر في البحر، وأجزاء البيت من البيت، فمن شعرهم‏:
 البحر لا شك عندي في توحده   وإن تعدد بالأمواج والزبد
 فلا يغرنك ما شاهدت من صور   فالواحد الرب ساري العين في العدد
ومنه‏:
 فما البحر إلا الموج لا شيء غيره    وإن فرقته كثرة المتعدد
ولا ريب أن هذا القول هو أحذق في الكفر والزندقة، فإن التمييز بين الوجود والماهية، وجعل المعدوم شيئا، أو التمييز في الخارج بين المطلق والمعين وجعل المطلق شيئا وراء المعينات في الذهن، قولان ضعيفان باطلان‏.‏
وقد عرف من حدد النظر‏: أن من جعل في هذه الأمور الموجودة في الخارج شيئين‏:
أحدهما‏: وجودها‏.‏

ص -170-   والثاني‏: ذواتها، أو جعل لها حقيقة مطلقة موجودة زائدة على عينها الموجودة فقد غلط غلطا قويا، واشتبه عليه ما يأخذه من العقل من المعاني المجردة المطلقة عن التعيين، ومن الماهيات المجردة عن الوجود الخارجي بما هو موجود في الخارج من ذلك، ولم يدر أن متصورات العقل ومقدراته أوسع مما هو موجود حاصل بذاته، كما يتصور المعدومات، والممتنعات، والمشروطات ويقدر ما لا وجود له البتة مما يمكن أو لا يمكن، ويأخذ من المعينات صفات مطلقة فيه، ومن الموجودات ذوات متصورة فيه‏.‏
لكن هذا القول أشد جهلا وكفراً بالله تعالى، فإن صاحبه لا يفرق بين المظاهر والظاهر، ولا يجعل الكثرة والتفرقة إلا في ذهن الإنسان لما كان محجوبا عن شهود الحقيقة، فلما انكشف غطاؤه عاين أنه لم يكن غير، وأن الرائي عين المرئي، والشاهد عين المشهود‏.‏

ص -171-   فصل‏:
واعلم أن هذه المقالات لا أعرفها لأحد من أمة قبل هؤلاء على هذا الوجه، ولكن رأيت في بعض كتب الفلسفة المنقولة عن أرسطو أنه حكى عن بعض الفلاسفة قوله‏: إن الوجود واحد، ورد ذلك‏.‏ وحسبك بمذهب لا يرضاه متكلمة الصابئين‏.‏
وإنما حدَثتْ هذه المقالات بحدوث دولة التتار، وإنما كان الكفر الحلول العام، أو الاتحاد، أو الحلول الخاص، وذلك أن القسمة رباعية؛ لأن من جعل الرب هو العبد حقيقة، فإما أن يقول بحلوله فيه، أو اتحاده به، وعلى التقديرين، فإما أن يجعل ذلك مختصا ببعض الخلق، كالمسيح، أو يجعله عاماً لجميع الخلق‏.‏ فهذه أربعة أقسام‏:
الأول‏: هو الحلول الخاص، وهو قول النسطورية من النصارى ونحوهم ممن يقول‏: إن اللاهوت حل في الناسوت، وتدرع به كحلول الماء في الإناء، وهؤلاء حققوا كفر النصارى،بسبب مخالطتهم للمسلمين، وكان أولهم في زمن المأمون،وهذا قول من وافق هؤلاء النصارى من غالية هذه الأمة، كغالية الرافضة الذين يقولون‏: ‏إنه حل بعلي بن أبي طالب وأئمة أهل بيته، وغالية النساك

 

ص -172-   الذين يقولون بالحلول في الأولياء ومن يعتقدون فيه الولاية، أو في بعضهم كالحلاج ويونس والحاكم ونحو هؤلاء‏.‏
والثاني‏: هو الاتحاد الخاص، وهو قول يعقوبية النصارى وهم أخبث قولا، وهم السودان والقبط، يقولون‏: إن اللاهوت والناسوت اختلطا وامتزجا كاختلاط اللبن بالماء، وهو قول من وافق هؤلاء من غالية المنتسبين إلى الإسلام‏.‏
والثالث‏: هو الحلول العام، وهو القول الذي ذكره أئمة أهل السنة والحديث، عن طائفة من الجهمية المتقدمين، وهو قول غالب متعبدة الجهمية، الذين يقولون‏: إن الله بذاته في كل مكان، ويتمسكون بمتشابه من القرآن كقوله‏:
‏{‏وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏3‏]‏، وقوله‏: ‏‏{‏هومعكم‏}‏ ‏[‏الحديد‏: ‏4‏]‏‏.‏ والرد على هؤلاء كثير مشهور في كلام أئمة السنة، وأهل المعرفة، وعلماء الحديث‏.‏
الرابع‏: الاتحاد العام، وهو قول هؤلاء الملاحدة، الذين يزعمون أنه عين وجود الكائنات، وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى من وجهين‏: من جهة أن أولئك قالوا‏: إن الرب يتحد بعبده الذي قربه واصطفاه، بعد أن لم يكونا متحدين،وهؤلاء يقولون‏: ما زال الرب هو العبد وغيره من المخلوقات ليس هو غيره‏.‏ والثاني‏: من جهة أن أولئك خصوا ذلك بمن عظموه كالمسيح، وهؤلاء

 

ص -173-   جعلوا ذلك ساريا في الكلاب، والخنازير، والأقذار، والأوساخ، وإذا كان الله تعالى قد قال‏: ‏{‏لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ‏}‏الآية‏[‏المائدة‏: ‏72‏]‏‏.‏فكيف بمن قال‏: ‏إن الله هو الكفار، والمنافقون والصبيان، والمجانين والأنجاس، والأنتان وكل شيء ‏؟‏‏!‏
وإذا كان الله قد رد قول اليهود والنصاري لما قالوا‏: ‏
{‏نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ ‏}‏ وقال لهم‏: ‏‏{‏ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏18‏]‏ فكيف بمن يزعم أن اليهود والنصارى هم أعيان وجود الرب الخالق ليسوا غيره ولا سواه‏؟‏ ولا يتصور أن يعذب الله إلا نفسه‏؟‏ وأن كل ناطق في الكون فهو عين السامع‏؟‏ كما في قوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏ إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها‏"‏ وأن الناكح عين المنكوح، حتى قال شاعرهم‏:
 وتلتذ إن مرت على جسدي يدي    لأني في التحقيق لست سواكم
 واعلم أن هؤلاء لما كان كفرهم في قولهم‏: إن الله هو مخلوقاته كلها أعظم من كفر النصارى بقولهم‏: ‏{‏قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ‏}‏ وكان النصارى ضلال، أكثرهم لا يعقلون مذهبهم في التوحيد، إذ هو شيء متخيل لا يعلم ولا يعقل، حيث يجعلون الرب جوهراً واحداً، ثم يجعلونه ثلاثة جواهر، ويتأولون ذلك بتعدد الخواص والأشخاص التي هي الأقانيم، والخواص عندهم ليست جواهر، فيتناقضون مع كفرهم‏.‏
كذلك هؤلاء الملاحدة الاتحادية ضلال، أكثرهم لا يعقلون قول

ص -174-    رؤوسهم ولا يفقهونه، وهم في ذلك كالنصارى، كلما كان الشيخ أحمق وأجهل، كان بالله أعرف، وعندهم أعظم‏.‏
ولهم حظ من عبادة الرب الذي كفروا به، كما للنصارى، هذا ما دام أحدهم في الحجاب،فإذا ارتفع الحجاب عن قلبه وعرف أنه هو، فهو بالخيار بين أن يسقط عن نفسه الأمر، والنهي،ويبقى سدى يفعل ما أحب،وبين أن يقوم بمرتبة الأمر، والنهي، لحفظ المراتب، وليقتدي به الناس المحجوبون، وهم غالب الخلق، ويزعمون أن الأنبياء كانوا كذلك إذ عدوهم كاملين‏.‏

ص -175-   فصل‏:
مذهب هؤلاء الاتحادية كابن عربي، وابن سبعين، والقونوي، والتلمساني مركب من ثلاثة مواد‏:
سلب الجهمية وتعطيلهم‏.‏
ومجملات الصوفية‏: وهو ما يوجد في كلام بعضهم من الكلمات المجملة المتشابهة، كما ضلت النصارى بمثل ذلك فيما يروونه عن المسيح، فيتبعون المتشابه، ويتركون المحكم، وأيضا كلمات المغلوبين على عقلهم الذين تكلموا في حال سكر‏.‏
ومن الزندقة الفلسفية التي هي أصل التجهم،وكلامهم في الوجود المطلق، والعقول، والنفوس، والوحي والنبوة، والوجوب والإمكان، وما في ذلك من حق وباطل‏.‏
فهذه المادة أغلب على ابن سبعين والقونوي، والثانية أغلب على ابن عربي؛ ولهذا هو أقربهم إلى الإسلام، والكل مشتركون في التجهم،والتلمساني أعظمهم تحقيقًا لهذه الزندقة والاتحاد التي انفردوا بها، وأكفرهم بالله، وكتبه، ورسله وشرائعه، واليوم الآخر‏.‏

ص -176-    وبيان ذلك أنه قال‏: هو فيَّ كان متجل بوحدته الذاتية، عالماً بنفسه وبما يصدر عنه، وأن المعلومات بأسرها كانت منكشفة في حقيقة العلم شاهداً لها‏.‏
فيقال له‏: قد أثبت علمه بما يصدر منه، وبمعلومات يشهدها غير نفسه، ثم ذكرت أنه عرض نفسه على هذه الحقائق الكونية المشهودة المعدومة، فعند ذلك عبر ‏[‏ بأنا‏]‏ وظهرت حقيقة النبوة، التي ظهر فيها الحق واضحا، وانعكس فيها الوجود المطلق، وأنه هو المسمى باسم الرحمن، كما أن الأول هو المسمي باسم الله‏.‏
وسقت الكلام إلى أن قلت‏: وهو الآن على ما عليه كان، فهذا الذي علم أنه يصدر عنه وكان مشهوداً له معدوماً في نفسه هو الحق أو غيره‏؟‏ فإن كان الحق فقد لزم أن يكون الرب كان معدوماً، وأن يكون صادراً عن نفسه، ثم إنه تناقض‏.‏ وإن كان غيره، فقد جعلت ذلك الغير هو مرآة لانعكاس الوجود المطلق، وهو الرحمن، فيكون الخلق هو الرحمن‏.‏
فأنت حائر بين أن تجعله قد علم معدوماً صدر عنه، فيكون له غير وليس هو الرحمن، وبين أن تجعل هذا الظاهر والواصف هو إياه وهو الرحمن، فلا يكون معدوماً ولا صادراً عنه، وإما أن تصف الشيء بخصائص الحق الخالق تارة وبخصائص العبد المخلوق تارة، فهذا مع تناقضه كفر من أغلظ الكفر، وهو نظير قول النصارى‏: اللاهوت الناسوت، لكن هذا أكفر من وجوه متعددة‏.‏

ص -177-   فصل‏:
الوجه الأول‏: أن هذه الحقائق الكونية التي ذكرت أنها كانت معدومة في نفسها، مشهودة أعيانها في علمه في تجليه المطلق، الذي كان فيه متحداً بنفسه بوحدته الذاتية هل خلقها وبرأها وجعلها موجودة بعد عدمها، أم لم تزل معدومة ‏؟‏ فإن كانت لم تزل معدومة، فيجب ألا يكون شيء من الكونيات موجوداً، وهذا مكابرة للحس، والعقل، والشرع، ولا يقوله عاقل ولم يقله عاقل‏.‏ وإن كانت صارت موجودة بعد عدمها، امتنع أن تكون هي إياه؛ لأن الله لم يكن معدوماً فيوجد‏.‏
وهذا يبطل الاتحاد، ووجب حينئذ أن يكون موجوداً ليس هو الله، بل هو خلقه ومماليكه وعبيده، وهذا يبطل قولك‏: وهو الآن لا شيء معه على ما عليه كان‏.‏
الثاني‏: أن قولك‏: تركبت الخلقة الإلهية من كان إلى سر شأنه،أو قولك‏: ‏ظهر الحق فيه،أو نحو ذلك من الألفاظ التي يطلقها هؤلاء الاتحادية في هذا الموضع‏.‏ مثل قولهم‏: ظهر الحق وتجلى، وهذه مظاهر الحق ومجاليه، وهذا مظهر إلهيُّ ومجلى إلهيّ، ونحو ذلك، أتعني به أن عين ذاته حصلت هناك‏؟‏ أو

 

ص -178-   أو تعني به أنه صار ظاهراً متجلياً لها بحيث تعلمه‏؟‏ أو تعني به أنه ظهر لخلقه بها، وتجلى بها، وأنه ما ثم قسم رابع‏؟‏
فإن عنيت الأول وهو قول الاتحادية فقد صرحت بأن عين المخلوقات حتى الكلاب، والخنازير، والنجاسات، والشياطين والكفار هي ذات الله، أو هي وذات الله متحدتان، أو ذات الله حالة فيها، وهذا الكفر أعظم من كفر الذين قالوا‏:
‏‏{‏ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: 17، ‏72‏]‏ و‏{‏ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏73‏]‏، وإن الله يلد ويولد، وأن له بنين وبنات‏.‏ وإذا صرحت بهذا عرف المسلمون قولك فألحقوك ببني جنسك، فلا حاجة إلى ألفاظ مجملة يحسبها الظمآن ماء، ويا ليته إذا جاءها لم يجدها شيئا، بل يجدها سما ناقعا‏!‏
وإن عنيت أنه صار ظاهرًا متجليا لها، فهذا حقيقة أنه صار معلوماً لها، ولا ريب أن الله يصير معروفاً لعبده، لكن كلامك في هذا باطل من وجهين‏:
من جهة أنك جعلته معلوماً للمعدومات، التي لا وجود لها؛ لكونه قد علمها، واعتقدت أنها إذا كانت معلومة يجوز أن تصير عالمة، وهذا عين الباطل‏: من جهة أنه إذا علم أن الشيء سيكون، لم يجز أن يكون هذا قبل وجوده عالماً قادراً فاعلا‏.‏
ومن جهة أن هذا ليس حكم جميع الكائنات المعلومة، بل بعضها هو الذي يصح منه العلم‏.‏

ص -179-    وأما إن قلت‏: إن الله يعلم بها لكونها آيات دالة عليه فهذا حق، وهو دين المسلمين وشهود العارفين، لكنك لم تقل هذا لوجهين‏:
أحدهما‏: أنها لا تصير آيات إلا بعد أن يخلقها ويجعلها موجودة، لا في حال كونها معدومة معلومة، وأنت لم تثبت أنه خلقها ولا جعلها موجودة، ولا أنه أعطى شيئا خلقه، بل جعلت نفسه هو المتجلي لها‏.‏الوجه الثاني‏: أنك قد صرحت بأنه تجلى لها وظهر لها، لا أنه دل بها خلقه، وجعلها آيات تكون تبصرة وذكرى لكل عبد منيب، والله قد أخبر في كتابه أنه يجعل في هذه المصنوعات آيات، والآية مثل العلامة والدلالة كما قال‏:
‏‏{‏ وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏163، 164‏]‏ وتارة يسميها نفسها آية، كما قال تعالى‏: ‏{‏وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُأَحْيَيْنَاهَا ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏33‏]‏ وهذا الذي ذكره الله في كتابه هو الحق‏.‏
فإذا قيل في نظير ذلك‏: تجلى بها وظهر بها كما يقال‏: علم وعرف بها، كان المعنى صحيحا، لكن لفظ التجلي والظهور في مثل هذا الموضع غير مأثور، وفيه إيهام وإجمال، فإن الظهور والتجلي يفهم منه الظهور والتجلي للعين، لا سيما لفظ التجلي، فإن استعماله في التجلي للعين هو الغالب، وهذا مذهب الاتحادية، صرح به ابن عربي وقال‏: فلا تقع العين إلا عليه‏.‏
وإذا كان عندهم أن المرئي بالعين هو الله فهذا كفر صريح باتفاق المسلمين،بل قد ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏‏"‏واعلموا أن أحداً

 

ص -180-   منكم لن يري ربه حتى يموت‏"‏ ولا سيما إذا قيل‏: ‏ظهر فيها وتجلى،فإن اللفظ يصير مشتركا بين أن تكون ذاته فيها، أو تكون قد صارت بمنزلة المرآة التي يظهر فيها مثال المرئي، وكلاهما باطل، فإن ذات الله ليست في المخلوقات، ولا في نفس ذاته ترى المخلوقات كما يري المرئي في المرآة، ولكن ظهورها دلالتها عليه وشهادتها له، وإنها آيات له على نفسه، وصفاته سبحانه وبحمده، كما نطق بذلك كتاب الله‏.‏
الوجه الثالث‏: أن مقارنة الألف والنون المعبر عنها ب ‏[‏أنا‏]‏ واللفظة التي هي ‏[‏حقيقة النبوة‏]‏ و ‏[‏ الروح الإضافي ‏]‏ هذه الأشياء داخلة في مسمى أسماء الله، بحيث تكون مما يدخل في مسمى أسمائه الظاهرة والمضمرة، أم ليست داخلة في مسمى أسمائه ‏؟‏ فإن كان الأول، فتكون جميع المخلوقات داخلة في مسمى أسماء الله، وتكون المخلوقات جزءاً من الله وصفة له، وإن كان الثاني، فهذه الأشياء معدومة،ليس لها وجود في أنفسها، فكيف يتصور أن تكون موجودة لا موجودة، ثابتة لا ثابتة، منتفية لا منتفية‏؟‏ وهذا تقسيم بين، وهو أحد ما يكشف حقيقة هذا التلبيس‏.‏
فإن هذه الأمور التي كانت معلومة له معدومة عند نزول الخلية ظهرت هذه الأمور التي ذكرها، فهذه الأمور الظاهرة المعلومة بعد هذا النزول قد صارت ‏[‏ أنا‏]‏ وحقيقة نبوة، وروحاً إضافيا، وفعل ذات، ومفعول ذات، ومعنى وسائط، فإن كان جميع ذلك في الله، ففيه كفران عظيمان‏:
كون جميع المخلوقات جزءًا من الله‏.‏

ص -181-   وكونه متغيرًا هذه التغيرات، التي هي من نقص إلى كمال، ومن كمال إلى نقص، وإن كانت خارجة عن ذاته فهذه الأشياء كانت معدومة، ولم يخلقها عندهم خارجة عنه، فكيف يكون الحال ‏؟‏
الوجه الرابع‏: أن عقدة حقيقة النبوة وما معها‏: إما أن يكون شيئا قائما بنفسه، أو صفة له أو لغيره، فإن كان قائما بنفسه فإما أن يكون هو اللّه أو غيره، فإن كان ذلك هو الله فيكون الله هو النقطة الظاهرة، وهو حقيقة النبوة، وهو الروح الإضافي‏.‏
وقد قال بعد هذا‏: إنه جعل الروح الإضافي في صورة فعل ذاته، وأنه أعطى محمداً عقدة نبوته، فيكون قد جعل نفسه صورة فعله، وأعطى محمداً ذاته، وهذا مع أنه من أبين الكفر وأقبحه فهو متناقض، فمن المعطِي ومن المعطَى ‏؟‏ إذا كان أعطى ذاته لغيره، وإن كانت هذه الأشياء أعيانا قائمة بنفسها وهي غير الله فسواء كانت ملائكة أوغيرها، من كل ما سوى الله من الأعيان، فهو خلق من خلق الله مصنوع مربوب، والله خالق كل شيء، فهو قد جعل ظهور الحق واصفا، وأنه المسمي باسم الرحمن، فيكون المسمى باسم الرحمن الواصف لنفسه مخلوقا، وهذا كفر صريح وهو أعظم من إلحاد الذين‏: ‏
{‏قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ ‏}‏ ‏[‏الفرقان‏: ‏60‏]‏، ومن إلحاد الذين قيل فيهم‏: ‏{‏وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏30‏]‏،فإن أولئك كفروا باسمه وصفته مع إقرارهم برب العالمين، وهؤلاء أقروا بالاسم وجعلوا المسمى مخلوقاً من مخلوقاته‏.‏
وأما إن كان المراد بهذه الحقيقة وما معها صفة‏: فإما أن تكون صفة لله

 

ص -182-    أو لغيره، فإن كانت صفة لله لم يجز أن تكون هي المسمى باسم الرحمن، فإن ذلك اسم لنفس الله لا لصفاته، والسجود لله لا لصفاته، والدعاء لله لا لصفاته، وإن كانت صفة لغيره فهذا الإلزام أعظم وأعظم‏.‏
وهذا تقسيم لا محيص عنه، فإن هذا الملحد في أسماء الله جعل هذه العقدة التي سماها عقدة حقيقة النبوة وجعلها صورة علم الحق بنفسه، وجعلها مرآة لانعكاس الوجود المطلق، محلا لتميز صفاته القديمة، وأن الحق ظهر فيه بصورته وصفته واصفا يصف نفسه ويحيط به، وهو المسمى باسم الرحمن، ثم ذكر أنه أعطى محمداً هذه العقدة‏.‏
ومعلوم أن المسمى باسم الرحمن هو المسمى باسم الله كما قال تعالى‏: ‏
{‏قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏110‏]‏ فيكون هو سبحانه هذه العقدة التي أعطاها لمحمد، وإن كانت صفة له أو غيره، فتكون هي الرحمن، فهذا الملحد دائر بين أن يكون الرحمن هو خلق من خلق الله أو صفة من صفاته، وبين أن يكون الرحمن قد وهبه الله لمحمد، وكل من القسمين من أسمج الكفر وأبشعه‏.‏
الوجه الخامس‏: أن قوله‏: لهذه الحقيقة طرفان‏: طرف إلى الحق المواجه إليها، الذي ظهر فيه الوجود الأعلى واصفا، وطرف إلى ظهور العالم منه، وهو المسمى بالروح الإضافي‏.‏
فذكر في هذا الكلام ظهور الوجود وظهور العالم، وقد تقدم أن الحق كان ولم يكن معه شيء وهو متجلّ بنفسه بوحدته الذاتية، وأنه لما نزلت الخلية

 

ص -183-   الإلهية، ظهرت عقدة حقيقة النبوة، فصارت مرآة لانعكاس الوجود، فظهر الحق فيه بصورة وصفه واصفا‏.‏
وقد ذكر في هذا الكلام الحق المواجه إليها والوجود الأعلى الذي ظهر في هذا الحق، والطرف الذي لها إلى الحق، فقد ذكر هنا ثلاثة أشياء‏: الحق، والوجود، والطرف، وقد جعل فيما تقدم‏: الحق هو الوجود المطلق الذي انعكس، وهو الحق الذي ظهر فيه واصفا، فتارة يجعل الحق هو الوجود المطلق، وتارة يجعل الوجود المطلق قد ظهر في هذا الحق، وهذا تناقض‏.‏
ثم يقال له‏: هذان عندك عبارة عن الرب تعالى، فقد جعلته ظاهرًا وجعلته مظهرًا، فإن عنيت بالظهور الوجود فيكون الرب قد وجد مرة بعد مرة، وهذا كفر شنيع، فكيف يتصور تكرر وجوده‏؟‏ وكيف يتصور أن يكون قد وجد في نفسه بعد أن لم يكن موجودا في نفسه ‏؟‏ وإن عنيت به الوضوح والتجلي، فليس هناك مخلوق يظهر له ويتجلى؛ إذ العالم بعد لم يخلق، وأنت قلت‏: ظهر الحق فيه واصفا، وسميته الرحمن، ولم تجعل ظهوره معلوما ولا مشهودا، فكيف يتصور أن يكون متجليا لنفسه بعد أن لم يكن متجليا‏؟‏ فإن هذا وصف له بأنه لم يكن يعلم نفسه حتى علمها‏.‏
وأيضا، فقد قلت‏: إنه كان متجليا لنفسه بوحدته، فهذا كفر وتناقض‏.‏
الوجه السادس‏: ‏أن هذا التحير والتناقض مثل تحير النصارى، وتناقضهم في الأقانيم‏.‏

ص -184-    فإنهم يقولون‏: الآب والابن وروح القدس ثلاثة آلهة، وهي إله واحد‏.‏
والمتدرع بناسوت المسيح هو الابن، ويقولون‏: هي الوجود، والعلم، والحياة، والقدرة‏.‏
فيقال لهم‏: إن كانت هذه صفات فليست آلهة، ولا يتصور أن يكون المتدرع بالمسيح إلهاً، إلا أن يكون هو الآب، وإن كانت جواهر وجب ألا تكون إلها واحداً؛ لأن الجواهر الثلاثة لا تكون جوهراً واحداً، وقد يمثلون ذلك بقولنا‏: زيد العالم القادر الحي، فهو بكونه عالمًا ليس هو بكونه قادرًا‏.‏
فإذا قيل لهم‏: هذا كله لا يمنع أن يكون ذاتاً واحدة لها صفات متعددة، وأنتم لا تقولون ذلك‏.‏
وأيضا،فالمتحد بالمسيح إذا كان إلهاً امتنع أن يكون صفة، وإنما يكون هو الموصوف، وأنتم لا تقولون بذاك، فما هو الحق لا تقولونه، وما تقولونه ليس بحق، وقد قال تعالى‏:
‏‏{‏ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ َّ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏171‏]‏‏.‏
فالنصارى حياري متناقضون،إن جعلوا الأقنوم صفة امتنع أن يكون المسيح إلهاً، وإن جعلوه جوهراً امتنع أن يكون الإله واحداً، وهم يريدون أن يجعلوا المسيح الله ويجعلوه ابن الله، ويجعلوا الآب والابن وروح القدس

ص -185-     إلهًا واحدًا؛ ولهذا وصفهم الله في القرآن بالشرك تارة، وجعلهم قسما غير المشركين تارة؛ لأنهم يقولون الأمرين وإن كانوا متناقضين‏.‏
وهكذا حال هؤلاء، فإنهم يريدون أن يقولوا بالاتحاد وأنه ما ثم غير، ويريدون أن يثبتوا وجود العالم، فجعلوا ثبوت العالم في علمه وهو شاهد له، وجعلوه متجليا لذلك المشهود له، فإذا تجلى فيه كان هو المتجلي لا غيره، وكانت تلك الأعيان المشهودة هي العالم‏.‏
وهذا الرجل، وابن عربي، يشتركان في هذا، ولكن يفترقان من وجه آخر‏.‏
فإن ابن عربي يقول‏: ‏وجود الحق ظهر في الأعيان الثابتة في نفسها، فإن شئت قلت‏: هو الحق، وإن شئت قلت‏: هو الخلق، وإن شئت قلت‏: هو الحق والخلق، وإن شئت قلت‏: لا حق من كل وجه، ولا خلق من كل وجه، وإن شئت قلت بالحيرة في ذلك‏.‏
وأما هذا فإنه يقول‏: تجلى الأعيان المشهودة له، فقد قالا في جميع الخلق ما يشبه قول ملكية النصارى في المسيح، حيث قالوا بأن اللاهوت والناسوت صارا جوهرًا واحدًا له أقنومان‏.‏
وأما التلمساني فإنه لا يثبت تعددًا بحال، فهو مثل يَعَاقِبَه النصارى، وهم أكفرهم، والنصارى قالوا بذلك في شخص واحد، وقالوا‏: إن اللاهوت يتدرع بالناسوت بعد أن لم يكن متدرعا به‏.‏

ص -186-   وهؤلاء قالوا‏: إنه في جميع العالم، وإنه لم يزل، فقالوا بعموم ذلك ولزومه، والنصارى قالوا بخصوصه وحدوثه، حتى قال قائلهم‏: النصارى إنما كفروا لأنهم خصصوا‏.‏
وهذا المعنى قد ذكره ابن عربي في غير موضع من الفصوص، وذكر أن إنكار الأنبياء على عُبّاد الأصنام إنما كان لأجل التخصيص، وإلا فالعارف المكمل من عبده في كل مظهر، وهو العابد والمعبود، وأن عباد الأصنام لو تركوا عبادتهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا منها، وأن موسى إنما أنكر على هارون لكون هارون نهاهم عن عبادة العجل، لضيق هارون، وعلم موسى بأنهم ما عبدوا إلا الله، وأن هارون إنما لم يسلط على العجل ليعبدوا الله في كل صورة، وإن أعظم مظهر عبد فيه هو الهوى، فما عبد أعظم من الهوى، لكن ابن عربي يثبت أعيانًا ثابتة في العدم‏.‏
وهذا ابن حمويه إنما أثبتها مشهودة في العلم فقط، وهذا القول هو الصحيح، لكن لا يتم معه ما طلبه من الاتحاد، ولهذا كان هو أبعدهم عن تحقيق الاتحاد وأقرب إلى الإسلام، وإن كان أكثرهم تناقضًا وهذيانًا، فكثرة الهذيان خير من كثرة الكفر‏.‏
ومقتضى كلامه هذا‏: ‏أنه جعل وجوده مشروطًا بوجود العالم، وإن كان له وجود ما غير العالم، كما أن نور العين مشروط بوجود الأجفان وإن كان قائما بالحدقة، فعلى هذا يكون الله مفتقرًا إلى العالم محتاجًا إليه كاحتياج نور العين

 

ص -187-   إلى الجفنين، وقد قال الله تعالى‏: ‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءِ‏}‏إلى آخر الآية ‏[‏آل عمران‏: 181‏]‏‏.‏
فإذا كان هذا قوله فيمن وصفه بأنه فقير إلى أموالهم ليعطيها الفقراء، فكيف قوله فيمن جعل ذاته مفتقرة إلى مخلوقاته، بحيث لولا مخلوقاته لانتشرت ذاته، وتفرقت وعدمت، كما ينتشر نور العين ويتفرق، ويعدم إذا عدم الجفن‏؟‏
وقد قال في كتابه‏:
‏‏{‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا‏}‏ الآية ‏[‏فاطر‏: ‏41‏]‏‏.‏ فمن يمسك السموات والأرض‏؟‏ وَقَالَ فِي كِتَابه‏: ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ٌ‏}‏ الآية ‏[‏الروم‏: ‏25‏]‏‏.‏ وقال‏: ‏{‏رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏2‏]‏ وقال‏: ‏‏{‏وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعلى الْعَظِيمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏255‏]‏ لا يؤوده‏: لا يثقله ولا يكرثه‏.‏
وقد جاء في الحديث، حديث أبي داود‏: ‏"‏ما السموات والأرض وما بينهما في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، والكرسي في العرش كتلك الحلقة في الفلاة‏"‏‏.‏ وقد قال في كتابه‏:
‏‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏الآية ‏[‏الزمر‏: ‏67‏]‏‏.‏
وقد ثبت في الصحاح من حديث أبي هريرة وابن عمر وابن مسعود‏: ‏"‏إن اللَّهَ يَمْسِكُ السَّمَواتِ والأرْضَ بِيَدِهِ‏"‏ فمن يكون في قبضته السموات والأرض، وكرسيه قد وسع السموات والأرض، ولا يؤوده حفظهما،

 

ص -188-   وبأمره تقوم السماء والأرض، وهو الذي يمسكهما أن تزولا، أيكون محتاجًا إليهما مفتقرًا إليهما، إذا زالا تفرق وانتشر‏؟‏
وإذا كان المسلمون يكفّرون من يقول‏: إن السموات تقلِّه أو تظلِّه، لما في ذلك من احتياجه إلى مخلوقاته، فمن قال‏: إنه في استوائه على العرش محتاج إلى العرش كاحتياج المحمول إلى حامله فإنه كافر؛ لأن الله غني عن العالمين حي قيوم، هو الغني المطلق وما سواه فقير إليه، مع أن أصل الاستواء على العرش ثابت بالكتاب والسنة، واتفاق سلف الأمة وأئمة السنة، بل هو ثابت في كل كتاب أنزل على كل نبي أرسل، فكيف بمن يقول‏: إنه مفتقر إلى السموات والأرض، وأنه إذا ارتفعت السموات والأرض، تفرق، وانتشر، وعدم فأين حاجته في الحمل إلى العرش، من حاجة ذاته إلى ما هو دون العرش‏؟‏
ثم يقال لهؤلاء‏: إن كنتم تقولون بقدم السموات والأرض ودوامهما، فهذا كفر‏.‏ وهو قول بقدم العالم، وإنكار انفطار السموات والأرض وانشقاقهما، وإن كنتم تقولون بحدوثهما فكيف كان قبل خلقهما‏؟‏ هل كان منتشرًا، متفرقًا معدومًا، ثم لما خلقهما صار موجودًا مجتمعًا‏؟‏ هل يقول هذا عاقل‏؟‏
فأنتم دائرون بين نوعين من الكفر، مع غاية الجهل والضلال، فاختاروا أيهما شئتم‏.‏ إن صور العالم لا تزال تفنى ويحدث في العالم بدلها مثل الحيوان والنبات والمعادن، ومثل ما يحدثه الله في الجو من السحاب والرعد والبرق والمطر وغير ذلك، فكلما عدم شيء من ذلك، ينتقص من نور الحق، ويتفرق

 

ص -189-   ويعدم، بقدر ما عدم من ذلك، وكلما زاد شيء من ذلك، زاد نوره واجتمع ووجد‏.‏
وأما إن عنى أن نور الله باق بعد زوال السموات والأرض، لكن لا يظهر فيه شيء، فما الشيء الذي يظهر بعد عدم هذه الأشياء‏؟‏ وأي تأثير للسموات والأرض في حفظ نور الله‏؟‏
وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه‏"‏، وقال عبد الله بن مسعود‏: إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار، نور السموات من نور وجهه‏.‏
فقد أخبر الصادق المصدوق أن الله لو كشف حجابه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من السموات والأرض، وغيرهما، فمن يكون سبحات وجهه تحرق السموات والأرض، وإنما حجابه هو الذي يمنع هذا الإحراق، أيكون نوره إنما يحفظ بالسموات والأرض‏؟‏
الوجه السابع‏: قوله‏: فالعلويات جفنها الفوقاني، والسفليات جفنها التحتاني، والتفرقة البشرية في السفليات أهداب الجفن الفوقاني، والنفس الكلية سوادها، والروح الأعظم بياضها‏.‏ يقال له‏: فإذا كان العالم هو هذه

 

ص -190-   العين، فالعين الأخرى أي شيء هي‏؟‏ وبقية الأعضاء أين هي‏؟‏ هذا لازم قولك‏: إن عنيت بالعين المتعين، وإن عنيت الذات والنفس وهو ما تعين فيه فقد جعلت نفس السموات والأرض والحيوان والملائكة أبعاضًا من الله، وأجزاء منه، وهذا قول هؤلاء الزنادقة، الفرعونية الاتحادية، الذين أتبعهم الله في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‏.‏
فيقال له‏: فعلى هذا لم يخلق الله شيئا، ولا هو رب العالمين؛ لأنه إما أن يخلق نفسه أو غيره، فخلقه لنفسه محال، وهذا معلوم بالبديهة أن الشيء لا يخلق نفسه؛ ولهذا قال تعالى‏:
‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏، يقول‏: أخلقوا من غير خالق، أم هم خلقوا أنفسهم‏؟‏
ولهذا قال جبير بن مطعم‏: لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ هذه الآية، أحسست بفؤادي قد انصدع‏.‏ فقد علموا أن الخالق لا يكون هو المخلوق بالبديهة، وخلقه لغيره ممتنع على أصلهم؛ لأن هذه الأشياء هي أجزاء منه ليست غيرا له‏.‏
الوجه الثامن‏: أنه جعل البشر أهداب جفن حقيقة الله، وهم دائما يزيدون وينقصون، ويموتون ويحيون، وفيهم الكافر والمؤمن، والفاجر والبر، فتكون أهداب جفن حقيقة الله لا تزال مفرقة، كاشرة فاسدة، ويكون المشركون، واليهود، والنصارى أجفان حقيقته، وقد لعن من جعلهم أبناءه على سبيل الاصطفاء، فكيف بمن جعلهم من نفسه‏؟‏

ص -191-   الوجه التاسع‏: أنه متناقض من حيث جعل الروح بياضها، والنفس الكلية سوادها، والسموات الجفن الأعلى، والأرضون الجفن الأسفل‏.‏
ومعلوم أن جفني عين الإنسان محيطان بالسواد والبياض، والروح والنفس عنده هي فوق السموات والأرض، ليست بين السماء والأرض، كما أن سواد العين وبياضها بين الجفنين، فهذا التمثيل مع أنه من أقبح الكفر، ففيه من الجهالة والتناقض ما تراه‏.‏
الوجه العاشر‏: أن النفس الكلية اسم تلقاه عن الصابئة الفلاسفة‏.‏
وأما الروح‏: فإن مقصوده بها هو الذي يسمونه العقل، وهو أول الصادرات، وسماه هو روحًا، وهذا بناه على مذهب الصابئة، وليس هذا من دين الحنفاء، وقد بينا فساد ذلك في غير هذا الموضع‏.‏
لكن الصابئة الفلاسفة خير من هؤلاء، فإنهم يقرون بواجب الوجود الذي صدرت عنه العقول، والنفوس والأفلاك، والأرض لا يجعلونها إياه وهؤلاء يجعلونها إياه‏.‏
فقولهم إنما ينطبق على المعطلة، مثل فرعون وحزبه الذي قال‏:
‏‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏23‏]‏، وقال‏: ‏‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏38‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعلى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ‏}‏ الآية ‏[‏غافر‏: ‏36، 37‏]‏
فإن فرعون يقر بوجود هذا العالم، ويقول‏: ما فوقه رب، ولا له خالق غيره‏.‏

ص -192-   فهؤلاء إذا قالوا‏: إنه عين السموات والأرض، فقد جحدوا ما جحده فرعون، وأقروا بما أقر به فرعون، إلا أن فرعون لم يسمه إلها ولم يقل‏: هو الله‏.‏
وهؤلاء قالوا‏: هذا هو اللّه، فهم مقرون بالصانع، لكن جعلوه هو الصنعة فهم في الحقيقة معطلون، وفي اعتقادهم مقرون‏.‏
وفرعون بالعكس‏: كان منكرًا للصانع في الظاهر، وكان في الباطن مقرًا به، فهو أكفر منهم، وهم أضل منه وأجهل، ولهذا يعظمونه جدًا‏.‏
الوجه الحادي عشر‏: قول القائل‏: بل هذا هو الحق الصريح المتبع، لا ما يرى المنحرف عن مناهج الإسلام ودينه، المتحير في بيداء ضلالته وجهله‏.‏
فيقال‏: من الذي قال هذا الحق من الأولين والأخرين‏؟‏ وهذا كتاب الله من أوله إلى آخره، الذي هو كلام الله، ووحيه، وتنزيله، ليس فيه شيء من هذا، ولا في حديث واحد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أئمة الإسلام ومشايخه، إلا عن هؤلاء المفترين على الله الذين هم في مشائخ الدين نظير جنكسخان في أمر الحرب، فديانتهم تشبه دولته، ولعل إقراره بالصانع خير من إقرارهم، لكن بعضهم قد يوجب الإسلام فيكون خيرًا من التتار من هذا الوجه‏.‏
وأما محققوهم وجمهورهم، فيجوز عندهم التهود والتنصر، والإسلام

 

ص -193-   والإشراك، لا يحرمون شيئا من ذلك، بل المحقق عندهم لا يحرم عليه شيء، ولا يجب عليه شيء‏.‏
ومعلوم أن التتار الكفار خير من هؤلاء، فإن هؤلاء مرتدون عن الإسلام من أقبح أهل الردة، والمرتد شر من الكافر الأصلي من وجوه كثيرة، وإذا كان أبو بكر الصديق قاتل المرتدين بمنعهم الزكاة، فقتال هؤلاء أولى‏.‏
وأما ما حكاه عن الذي سماه الشيخ المحقق، العالم الرباني، الغوث السابع ‏[‏في الشمعة‏]‏ من أنه قال‏: اعلم أن العالم بمجموعه حدقة عين الله، التي لا تنام‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ إلخ‏.‏ فالكلام عليه من وجوه‏:
أحدها‏: أن تسمية قائل مثل هذا المقال‏: محققًا، وعالمًا، وربانيًا، عين الضلالة والغواية، بل هذا كلام لا تقوله لا اليهود، ولا النصارى، ولا عباد الأوثان‏.‏
فإن كان الذي قاله مسلوب العقل، كان حكمه حكم غيره في أن الله رفع عنه القلم، وإن كان عاقلا فجرأة على الله الذي يقول‏:
‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ‏}‏ إلى آخر الآيات ‏[‏مريم‏: ‏88‏: 90‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏الظالمين‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏26، 27‏]‏، وقال‏: ‏{‏لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏17، 18‏]‏‏.‏

ص -194-    فإذا كان هذا قوله فيمن يقول‏: إنهم أبناؤه وأحباؤه، فكيف قوله فيمن يقول‏: إنهم أهداب جفنه‏؟‏ ‏!‏ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا‏.‏
الوجه الثاني‏: أن هذا الشيخ الضال الذي قال هذا الكفر والضلال قد نقض آخر كلامه بأوله، فإن لفظ العين‏: مشترك بين نفس الشيء، وبين العضو المبصر، وبين مسميات أخر، وإذا قال بعين الشيء، فهو من العين التي بمعنى النفس، أي تميز بنفسه عن غيره، فإذا قال‏: إن العالم بمجموعه حدقة عين الله التي لا تنام فالعين هنا بمعنى البصر‏.‏
ثم قال في آخر كلامه‏: ونعني بعين الله ما يتعين الله فيه، فهذا من العين بمعنى النفس، وهذه العين ليس لها حدقة ولا أجفان، وإنما هذا بمنزلة من قال‏: نبعت العين وفاضت، وشربنا منها واغتسلنا، ووزنتها في الميزان، فوجدتها عشرة مثاقيل، وذهبها خالص‏.‏
وسبب هذا‏: أنه كان كثيرا ما كان يتصرف في حروف بلا معان‏.‏
الوجه الثالث‏: أنه تناقض من وجه آخر، فإنه إذا كان العالم هو حدقة العين، فينبغي أن يكون قد بقي من الله بقية الأعضاء غير العين، فإذا قال في آخر كلامه‏: والله هو نور العين، كان الله جزءًا من العين، أو صفة له، فقد جعل في أول كلامه العالم جزءًا من الله، وفي آخر كلامه جعل الله جزءًا من العالم، وكل من القولين كفر، بل هذا أعظم من كفر الذين ذكرهم الله بقوله‏:
‏{‏وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏15، 16‏]‏،

ص -195-    فإذا كان الله كفر من جعل له من عباده جزءًا، فكيف من جعل عباده تارة جزءًا منه، وتارة جعله هو جزءًا منهم‏؟‏‏!‏
فلعن الله أرباب هذه المقالات، وانتصر لنفسه، ولكتابه، ولرسوله، ولعباده المؤمنين منهم‏.‏
الوجه الرابع‏: أنه تناقض من جهة أخرى، فإنه إذا قال‏: العين ما يتعين الله فيه، والعالم كله حدقة عينه التي لا تنام، فقد جعله متعينًا في جميع العالم، فإذا قال بعدها‏: وهو نور العين، بقيت سائر أجزاء العين، من الأجفان، والأهداب والسواد، والبياض، لم يتعين فيها، فقد جعله متعينًا فيها، غير متعين فيها‏.‏
الوجه الخامس‏: أن نور العين مفتقر إلى العين، محتاج إليها لقيامه بها، فإذا كان الله في العالم كالنور في العين، وجب أن يكون محتاجًا إلى العالم‏.‏
واعلم أن هذا القول يشبه قول الحلولية، الذين يقولون‏: هو في العالم كالماء في الصوفة، وكالحياة في الجسم ونحو ذلك، ويقولون‏: هو بذاته في كل مكان، وهذا قول قدماء الجهمية، الذين كفرهم أئمة الإسلام، وحكي عن الجهم أنه كان يقول‏: هو مثل هذا الهواء، أو قال‏: هو هذا الهواء‏.‏
وقوله أولا‏: هو حدقة عين الله، يشبه قول الاتحادية، فإن الاتحادية يقولون‏: هو مثل الشمعة التي تتصور في صور مختلفة وهي واحدة، فهو عندهم الوجود، واختلاف أحواله كاختلاف أحوال الشمعة‏.‏

ص -196-   ولهذا كان صاحب هذه المقالات، متخبطا لا يستقر عند المسلمين الموحدين المخلصين، ولا هو عند هؤلاء الملاحدة الاتحادية من محققيهم العارفين‏.‏
فإن هؤلاء كلهم من جنس النصيرية، والإسماعيلية، مقالات هؤلاء في الرب من جنس مقالات أولئك، وأولئك فيهم المتمسك بالشريعة، وفيهم المتخلى عنها، وهؤلاء كذلك، لكن أولئك أحذق في الزندقة، وهم يعلمون أنهم معطلون مثل فرعون، وهؤلاء جهال يحسبون أنهم يحسنون صنعا‏.‏
الوجه السادس‏: قوله‏: إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله تعالى‏: بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا، وهذا كلام مجمل، ولا ريب أن قائل هذه المقالة من المذبذبين، بين الكافرين والمؤمنين، لا هو من المؤمنين، ولا من الاتحادية المحضة، لكنه قد لبس الحق بالباطل، وذلك أن الاتحادية يقولون‏: إن عين السموات والأرض لو زالت لعدم الله، وهذا اللفظ يصرح به بعضهم، وأما غالبهم فيشيرون إليه إشارة، وعوامهم لا يفهمون هذا من مذهب الباقين، فإن هؤلاء من جنس القرامطة، والباطنية، وأولئك إنما يصلون إلى البلاغ الأكبر، الذي هو آخر مراتب خواصهم‏.‏
ولهذا حدثني بعض أكابر هؤلاء الاتحادية عن صاحب هذه المقالة، أنه كان يقول‏: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف‏.‏ فقلت له‏: هذا من أبطل الباطل، بل ليس بين مذهبين من الفرق أعظم مما بين التوحيد والإلحاد، وهذا قاله بناء على هذا الخلط واللبس الذي خلطه، مثل

 

ص -197-   قوله‏: إن العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء‏.‏
فيقال له‏: إذا ارتفعت العلويات والسفليات‏: فما تعني بانبساطه‏؟‏ أتعني تفرقه وعدمه كما يتفرق نور العين عند عدم الأجفان‏؟‏ أم تعني أنه ينبسط شيء موجود‏؟‏ وما الذي ينبسط حينئذ‏؟‏ أهو نفس الله، أم صفة من صفاته‏؟‏ وعلى أي شيء ينبسط‏؟‏ وما الذي يظهر فيه أو لا يظهر‏؟‏
فإن عنيت الأول وهو مقتضى أول كلامك، لأنك قلت‏: وإنما قلنا‏: إن العلويات والسفليات أجفان عين الله لأنهما يحافظان على ظهور النور، فلو قطعت أجفان عين الإنسان، لتفرق نور عينه وانتشر، بحيث لا يرى شيئا أصلا، فكذلك العلويات والسفليات لو ارتفعت لانبسط نور الله، بحيث لا يظهر فيه شيء أصلا‏.‏
وقد قلت‏: إن الله هو نور العين، والروح الأعظم بياضها، والنفس الكلية سوادها‏.‏
ومعلوم أن نور العين على ما ذكرته بشرط وجوده هو الأجفان، فإذا ارتفع الشرط ارتفع المشروط، فيكون العالم عندك شرطا في وجود الله، فإذا ارتفع العالم ارتفعت حقيقة الله لانتفاء شرطه، وإن أثبت له ذاتا غير العالم فهذا أحد قولي الاتحادية‏.‏
فإنهم تارة يجعلون وجود الحق هو عين وجود المخلوقات ليس غيرها،

 

ص -198-   وعلى هذا فلا يتصور وجوده مع عدم المخلوقات، وهذا تعطيل محض للصانع وهو قول القونوي والتلمساني، وهو قول صاحب الفصوص في كثير من كلامه، وتارة يجعلون له وجودًا قائما بنفسه، ثم يجعلون نفس ذلك الوجود هو أيضا وجود المخلوقات، بمعنى أنه فاض عليها، وهذا أقل كفرًا من الأول، وإن كان كلاهما من أغلظ الكفر وأقبحه‏.‏
وفي كلام صاحب الفصوص وغيره في بعض المواضع ما يوافق هذا القول، وكذلك كلام هذا، فإنه قد يشير إلى هذا المعنى‏.‏
ثم مع ذلك‏: هل يجعلون وجوده مشروطا بوجود العالم، فيكون محتاجا إلى العالم، أو لا يجعلون‏؟‏ قد يقولون هذا، وقد يقولون هذا‏.‏
السابع‏: أنهم يمدحون الضلال والحيرة، والظلم والخطأ، والعذاب الذي عذب الله به الأمم، ويقلبون كلام الله وكلام رسوله قلبا يعلم فساده بضرورات العقول مثل قول صاحب الفصوص‏: لو أن نوحا ما جمع لقومه بين الدعوتين لأجابوه فدعاهم جهارًا، ثم دعاهم إسرارًا‏.‏ إلى أن قال‏: وذكر عن قومه أنهم تصاموا عن دعوته، لعلمهم بما يجب عليهم من إجابة دعوته‏.‏ فعلم العلماء بالله ما أشار إليه نوح في حق قومه، من الثناء عليهم بلسان الذم، وعلم أنهم إنما لم يجيبوا دعوته لما فيها من الفرقان، والأمر قرآن لا فرقان‏.‏ ومن أقيم في القرآن لا يصغي إلى الفرقان، وإن كان فيه‏.‏
فيمدحون ويحمدون ما ذمه الله ولعنه، ونهى عنه، ويأتون من الإفك

 

ص -199-   والفرية على الله والإلحاد في أسماء الله وآياته، بما‏: ‏{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏90‏]‏، كقول صاحب الفصوص في فص نوح‏:
‏{‏مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏25‏]‏، فهي التي خطت بهم فغرقوا في بحار العلم بالله وهو الحيرة‏.‏
‏{‏فَأُدْخِلُوا نَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏25‏]‏ في عين الماء في المحمدتين، ف ‏{‏وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏: ‏6‏]‏ سجرت التنور‏: إذا أوقدته، ‏{‏فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏25‏]‏‏: فكان الله عين أنصارهم، فهلكوا فيه إلى الأبد، فلو أخرجتهم إلى السيف سيف الطبيعة، لنزلوا عن هذه الدرجة الرفيعة، وإن كان الكل لله، وبالله، بل هو الله‏.‏ وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏26‏]‏ الذين استغشوا ثيابهم وجعلوا أصابعهم في آذانهم، طلبًا للستر لأنه دعاهم ليغفر لهم، والغفر الستر، ‏{‏دَيَّارًا‏}‏ أحدًا حتى تعم المنفعة كما عمت الدعوة، ‏{‏إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ‏}‏ أي‏: تدعهم وتتركهم ‏{‏يُضِلُّوا عِبَادَكَ‏}‏ أي‏: يحيروهم ويخرجوهم من العبودية إلى ما فيهم من أسرار الربوبية، فينظروا أنفسهم أربابا، بعد ما كانوا عند أنفسهم عبيدًا، فهم العبيد الأرباب ‏{‏وَلَا يَلِدُوا‏}‏ أي ما ينتجون ولا يظهرون ‏{‏إِلَّا فَاجِرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏27‏]‏ أي مظهرًا ما ستر ‏{‏كَفَّارًا‏}‏ أي‏: ساترا ما ظهر بعد ظهوره، فيظهرون ما ستر، ثم يسترونه بعد ظهوره، فيحار الناظر، ولا يعرف قصد الفاجر في فجوره، ولا الكافر في كفره، والشخص واحد، ‏{‏رَبِّ اغْفِرْ لِي‏}‏ أي‏: استرني، واستر مراحلي، فيجهل مقامي وقدري كما جهل قدرك في قولك‏:

 

ص -200-      {‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏67‏]‏، ‏{‏وَلِوَالِدَيَّ‏}‏ أي‏: ‏من كنت نتيجة عنهما وهما العقل والطبيعة ‏{‏وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ‏}‏ أي‏: قلبي ‏{‏مُؤْمِنًا‏}‏ مصدقا بما يكون فيه من الأخبار الإلهية وهو ما حدثت به أنفسها، ‏{‏وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ من العقول ‏{‏وَالْمُؤْمِنَاتِ‏}‏ من النفوس ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ‏}‏ من الظلمات أهل الغيب المكتنفين داخل الحجب الظلمانية ‏{‏إِلَّا تَبَارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏28‏]‏ أي‏: هلاكا، فلا يعرفون نفوسهم، لشهودهم وجه الحق دونهم‏.‏
وهذا كله من أقبح تبديل كلام الله وتحريفه، ولقد ذم الله أهل الكتاب في القرآن على ما هو دون هذا، فإنه ذمهم على أنهم حرفوا الكلم عن مواضعه، وأنهم يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون‏: هو من عند الله، وما هو من عند الله، ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون‏.‏
وهؤلاء قد حرفوا كلام الله عن مواضعه أقبح تحريف، وكتبوا كتب النفاق والإلحاد بأيديهم، وزعموا أنها من عند الله‏.‏
تارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الملك الذي يوحي به إلى النبي، فيكونون فوق النبي بدرجة‏.‏
وتارة يزعمون أنهم يأخذون من حيث يأخذ الله، فيكون أحدهم في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد‏.‏
وتارة يزعم أحدهم أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه في منامه هذا النفاق

 
ص -201-   العظيم، والإلحاد البليغ، وأمره أن يخرج به إلى أمته وأنه أبرزه، كما حده له رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير زيادة ولا نقصان، وكان جماعة من الفضلاء حتى بعض من خاطبني فيه وانتصر له يرى أنه كان يستحل الكذب، ويختارون أن يقال‏: كان يتعمد الكذب وأن ذلك هو أهون من الكفر، ثم صرحوا بأن مقالته كفر، وكان ممن يشهد عليه بتعمد الكذب، غير واحد من عقلاء الناس، وفضلائهم، من المشايخ والعلماء‏.‏
ومعلوم أن هذا من أبلغ الكذب على الله ورسوله، وأنه من أحق الناس بقوله‏: ‏‏
{‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏93‏]‏، وكثير من المتنبئين الكذابين كالمختار بن أبي عبيد وأمثاله لم يبلغ كذبهم وافتراؤهم إلى هذا الحد‏.‏
بل مسيلمة الكذاب لم يبلغ كذبه وافتراؤه إلى هذا الحد، وهؤلاء كلهم كان يعظم النبي صلى الله عليه وسلم ويقر له بالرسالة، لكن كان يدعى أنه رسول آخر، ولا ينكر وجود الرب، ولا ينكر القرآن في الظاهر، وهؤلاء جحدوا الرب، وأشركوا به كل شيء، وافتروا هذه الكتب التي قد يزعمون أنها أعظم من القرآن، ويفضلون نفوسهم على النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الوجوه، كما قد صرح به صاحب الفصوص عن خاتم الأولىاء‏.‏
وحدثني الثقة عن الفاجر التلمساني أنه كان يقول‏: القرآن كله شرك ليس فيه توحيد، و إنما التوحيد في كلامنا‏.‏

ص -202-   وأما الضلال والحيرة، فما مدح الله ذلك قط، ولا قال النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏زدني فيك تحيرًا ولم يرو هذا الحديث أحد من أهل العلم بالحديث، ولا هو في شيء من كتب الحديث، ولا في شيء من كتب من يعلم الحديث، بل ولا من يعرف الله ورسوله، وكذلك احتجاجه بقوله‏: ‏‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏20‏]‏‏.‏
وإنما هذا حال المنافقين المرتدين، فإن الضلال والحيرة مما ذمه الله في القرآن، قال الله تعالى في القرآن‏: ‏‏
{‏قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏: ‏71‏]‏‏.‏
وهكذا يريد هؤلاء الضالون، المتحيرون، أن يفعلوا بالمؤمنين، يريدون أن يدعوا من دون الله ما لا يضرهم، ولا ينفعهم، وهي المخلوقات والأوثان، والأصنام، وكل ما عبد من دون الله، ويريدون أن يردوا المؤمنين على أعقابهم، يردونهم عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت، ويصيروا حائرين ضالين كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى، ائتنا، وقال تعالى‏: ‏
{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏110‏]‏ أي‏: يحارون، وقال تعالى‏: ‏{‏وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏: ‏45‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عليهمْ غَيرِ المَغضُوبِ عليهمْ وَلاَ الضَّالِّينَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: 6، 7‏]‏‏.‏ فأمر بأن

 

ص -203-   نسأله هداية الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم، المغايرين للمغضوب عليهم وللضالين‏.‏ وهؤلاء يذمون الصراط المستقيم، ويمدحون طريق أهل الضلال والحيرة مخالفة لكتب الله ورسله، ولما فطر الله عليه عباده من العقول والألباب‏.

ص -204-   فصل
في ذكر بعض ألفاظ ابن عربي التي تبين ما ذكرنا من مذهبه، فإن أكثر الناس قد لا يفهمونه‏.‏
قال في فص يوسف بعد أن جعل العالم بالنسبة إلى الله كظل الشخص، وتناقض في التشبيه‏: فكل ما تدركه فهو وجود الحق في أعيان الممكنات، فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات، فكما لا يزول عنه باختلاف الصور اسم الظل، كذلك لا يزول عنه باختلاف الصور اسم العالم أو اسم سوى الحق، فمن حيث إحدىة كونه ظلا هو الحق؛ لأنه الواحد الأحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم، فتفطن وتحقق ما أوضحناه لك‏.‏
وإذا كان الأمر على ما ذكرته لك، فالعالم متوهم ما له وجود حقيقي، وهذا معنى الخيال، أي خيل لك أنه أمر زائد قائم بنفسه، خارج عن الوجود الحق، وليس كذلك في نفس الأمر، ألا تراه في الحس متصلا بالشخص الذي امتد عنه، يستحيل عليه الانفكاك عن ذلك الاتصال؛ لأنه يستحيل على الشيء الانفكاك عن ذاته، فاعرف عينك ومن أنت وما هويتك، وما نسبتك إلى الحق، وبما أنت حق، وبما أنت عالم، وسوى، وغير‏؟‏ وما شاكل هذه الألفاظ‏.‏

ص -205-   وقال في أول الفصوص بعد ‏[‏فص حكمة إلهية في كلمة آدمية‏]‏ و‏[‏فص حكمة نفسية، في كلمة شيثية‏]‏‏: وقد قسم العطاء بأمر الله، وإنما يكون عن سؤال وعن غير سؤال، وذكر القسم الذي لا يسأل، لأن شيئا هو هبة الله إلى أن قال‏:  ومن هؤلاء من يعلم أن علم الله به في جميع أحواله‏: هو ما كان عليه في حال ثبوت عينه قبل وجودها، ويعلم أن الحق لا يعطيه إلا ما أعطاه عينه من العلم به، وهو ما كان عليه في حال ثبوته، فيعلم علم الله به من أين حصل، وما ثم صنف من أهل الله أعلى وأكشف من هذا الصنف، فهم الواقفون على سر القدر، وهم على قسمين‏:
منهم من يعلم ذلك مجملا، ومنهم من يعلم ذلك مفصلا‏.‏
والذي يعلمه مفصلا أعلى وأتم من الذي يعلمه مجملا، فإنه يعلم ما تعين في علم الله فيه، إما بإعلام الله إياه بما أعطاه عينه من العلم به، وإما بأن يكشف له عن عينه الثابتة، وعن انتقالات الأحوال عليها إلى ما لا يتناهى، وهو أعلى، فإنه يكون في علمه بنفسه بمنزلة علم الله به؛ لأن الأخذ من معدن واحد، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له، هي من جملة أحوال عينه، يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك أي على أحوال عينه فإنه ليس في وسع المخلوق إذا أطلعه الله على أحوال عينه الثابتة التي تقع صورة الوجود عليها أن يطلع في هذه الحال على اطلاع الحق على هذه الأعيان الثابتة في حال عدمها؛ لأنها نسب ذاتية لا صورة لها‏.‏

ص -206-   فبهذا القدر نقول‏: ‏إن العناية الإلهية سبقت لهذا العبد بهذه المساواة في إفادتها العلم، ومن هنا يقول الله‏: ‏{‏حتى نعلم‏}‏ وهي كلمة محققة المعنى، ما هي كما يتوهم من ليس له هذا المشرب، وغاية المنزه أن يجعل ذلك الحدوث في العلم للتعلق، وهو أعلى وجه يكون للمتكلم يعقله في هذه المسألة، لولا أنه أثبت العلم زائدًا على الذات فجعل التعلق له لا للذات، وبهذا انفصل عن المحقق من أهل الله صاحب الكشف والشهود‏.‏
ثم نرجع إلى الأعطيات فنقول‏: إن الأعطيات إما ذاتية أو أسمائية، فأما المنح والهبات، والعطايا الذاتية، فلا تكون أبدًا إلا عن تجل إلهي، والتجلي من الذات لا يكون أبدًا إلا لصورة استعداد العبد المتجلى له، وغير ذلك لا يكون، فإذن المتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وما رأى الحق، ولا يمكن أن يراه مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه، كالمرآة في الشاهد، إذا رأيت الصور فيها لا تراها مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها‏.‏
فأبرز الله ذلك مثالا نصبه لتجليه الذاتي، ليعلم المتجلي له أنه ما رآه، وما ثم مثال أقرب ولا أشبه بالرؤية والتجلي من هذا، واجهد في نفسك عندما ترى الصورة في المرآة أن ترى جرم المرآة، لا تراه أبدًا البتة، حتى إن بعض من أدرك مثل هذا في صورة المرئي، ذهب إلى أن الصورة المرئية بين بصر الرائي، وبين المرآة، هذا أعظم ما قدر عليه من العلم، والأمر كما قلناه وذهبنا إليه‏.‏
وقد بينا هذا في الفتوحات المكية، وإذا ذقت هذا، ذقت الغاية التي ليس

 

ص -207-   فوقها غاية في حق المخلوق، فلا تطمع ولا تتعب نفسك في أن ترقى أعلى من هذا الدرج، فما هو ثم أصلا وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها، وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم، فمنا من جهل في علمه فقال‏: ‏والعجز عن درك الإدراك إدراك، ومنا من علم فلم يقل مثل هذا القول، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم السكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله‏.‏
وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل، وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأنبياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدا‏.‏
فالمرسلون من حيث كونهم أولىاء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء‏؟‏ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى‏.‏
وقد ظهر في ظاهر شرعنا ما يؤيد ما ذهبنا إليه في فضل عمر، في أسارى بدر بالحكم فيهم، وفي تأبير النخل، فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل

 

ص -208-   شيء، وفي كل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم، وأما حوادث الأكوان فلا تعلق لخواطرهم بها، فتحقق ما ذكرناه‏.‏
ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن وقد كمل سوى موضع لبنة فكان النبي صلى الله عليه وسلم تلك اللبنة، غير أنه صلى الله عليه وسلم لا يراها إلا كما قال لبنة واحدة‏.‏
وأما خاتم الأولياء، فلابد له من هذه الرؤية، فيرى ما مثل به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيرى في الحائط موضع لبنتين، واللبن من ذهب وفضة، فيرى اللبنتين اللتين ينقص الحائط عنهما ويكمل بهما، لبنة ذهب ولبنة فضة، فلابد من أن يرى نفسه تنطبع في موضع تينك اللبنتين فيكون خاتم الأولياء تينك اللبنتين، فيكمل الحائط‏.‏
والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين‏: أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضة وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام كما هو آخذ عن الله تعالى في السر ما هو بالصورة الظاهرة متبع فيه؛ لأنه رأى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا، وهو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه آخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول‏.‏
فإن فهمت ما أشرت به فقد حصل لك العلم النافع، فكل نبي من لدن آدم إلى آخر نبي، ما منهم أحد يأخذ إلا من مشكاة خاتم النبيين، وإن تأخر وجود

 

ص -209-   طينته، فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏"‏، وغيره من الأنبياء ما كان نبيا إلا حين بعث‏.‏
وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًا وآدم بين الماء والطين، وغيره من الأولياء ما كان وليا إلا بعد تحصيله شرائط الولاية، من الأخلاق الإلهية، والاتصاف بها من أجل كون الله يسمى بالولي الحميد‏.‏
فخاتم الرسل من حيث ولايته نسبته مع الختم للولاية، مثل نسبة الأنبياء والرسل معه، فإنه الولي الرسول النبي‏.‏
وخاتم الأولياء الولي الوارث، الآخذ عن الأصل المشاهد للمراتب، وهو حسنة من حسنات خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة، فعين بشفاعته حالا خاصا ما عمم، وفي هذه الحال الخاص تقدم على الأسماء الإلهية، فإن الرحمن ما شفع عند المنتقم في أهل البلاء إلا بعد شفاعة الشافعين، ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص‏.‏
فمن فهم المراتب والمقامات لم يعسر عليه قبول مثل هذا الكلام‏.‏ ا ه‏.‏
فهذا الفص قد ذكر فيه حقيقة مذهبه التي يبني عليها سائر كلامه، فتدبر ما فيه من الكفر الذي ‏
{‏تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏90‏]‏، وما فيه من جحد خلق الله وأمره، وجحود ربوبيته وألوهيته وشتمه وسبه، وما فيه من الإزراء برسله، وصديقيه والتقدم عليهم

 

ص -210-   بالدعاوى الكاذبة، التي ليس عليها حجة، بل هي معلومة الفساد بأدنى عقل وإيمان وأيسر ما يسمع من كتاب وقرآن، وجعل الكفار والمنافقين والفراعنة هم أهل الله وخاصته أهل الكشوف وذلك باطل من وجوه‏:
أحدها‏: أنه أثبت له عينًا ثابتة قبل وجوده ولسائر الموجودات، وإن ذلك ثابت له ولسائر أحواله وكل ما كان موجودًا من الأعيان والصفات والجواهر والأعراض فعينه ثابتة قبل وجوده‏.‏ وهذا ضلال قد سبق إليه كما تقدم‏.‏
الثاني‏: أنه جعل علم الله بالعبد إنما حصل له من علمه بتلك العين الثابتة في العدم التي هي حقيقة العبد، لا من نفسه المقدسة، وأن علمه بالأعيان الثابتة في العدم وأحوالها تمنعه أن يفعل غير ذلك، وأن هذا هو سر القدر‏.‏
فتضمن هذا وصف الله تعالى بالفقر إلى الأعيان وغناها عنه، ونفى ما استحقه بنفسه، من كمال علمه وقدرته، ولزوم التجهيل والتعجيز، وبعض ما في هذا الكلام المضاهاة لما ذكره الله عمن قال فيه‏:
‏{‏لَّقَدْ سَمِعَ اللّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: ‏181‏]‏، فإنه جعل حقائق الأعيان الثابتة في العدم غنية عن الله في حقائقها وأعيانها، وجعل الرب مفتقرا إليها في علمه بها، فما استفاد علمه بها إلا منها، كما يستفيد العبد العلم بالمحسوسات من إدراكه لها، مع غنى تلك المدركات عن المدرك‏.‏

ص -211-   والمسلمون يعلمون أن الله عالم بالأشياء قبل كونها بعلمه القديم الأزلي، الذي هو من لوازم نفسه المقدسة، لم يستفد علمه بها منها‏: ‏‏{‏أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ‏}‏ ‏[‏الملك‏: ‏14‏]‏‏.‏ فقد دلت هذه الآية على وجود علمه بالأشياء من وجوه انتظمت البراهين المذكورة لأهل النظر والاستدلال القياسي العقلي من أهل الكلام والفلسفة وغيرهم‏:
أحدها‏: أنه خالق لها، والخلق هو الإبداع بتقدير، وذلك يتضمن تقديرها في العلم قبل تكونها في الخارج‏.‏
الثاني‏: أن ذلك مستلزم للإرادة، والمشيئة والإرادة مستلزمة لتصور المراد والشعور به، وهذه الطريقة المشهورة عند أكثر أهل الكلام‏.‏
الثالث‏: أنها صادرة عنه، وهو سببها التام، والعلم بأصل الأمر وسببه يوجب العلم بالفرع المسبب، فعلمه بنفسه مستلزم العلم بكل ما يصدر عنه‏.‏
الرابع‏: أنه في نفسه لطيف يدرك الدقيق خبير يدرك الخفي، وهذا هو مقتضى العلم بالأشياء، فيجب وجود المقتضي لوجود السبب التام، فهو في علمه بالأشياء مستغن بنفسه عنها، كما هو غني بنفسه في جميع صفاته، ثم إذا رأى الأشياء بعد وجودها، وسمع كلام عباده ونحو ذلك؛ فإنما يدرك ما أبدع وما خلق، وما هو مفتقر إليه، ومحتاج من جميع وجوهه، لم يحتج في علمه وإدراكه إلى غيره البتة؛ فلا يجوز القول بأن علمه بالأشياء استفاده من نفس الأشياء الثابتة، الغنية في ثبوتها عنه‏.‏

ص -212-   وأما جحود قدرته، فلأنه جعل الرب لا يقدر إلا على تجليه في تلك الأعيان الثابتة في العدم، الغنية عنه، فقدرته محدودة بها، مقصورة عليها، مع غناها عنه وثبوت حقائقها بدونه، وهذا عنده هو السر الذي أعجز الله أن يقدر على غير ما خلق، فلا يقدر عنده على أن يزيد في العالم ذرة، ولا ينقص منه ذرة، ولا يزيد في المطر قطرة، ولا ينقص منه قطرة، ولا يزيد في طول الإنسان ولا ينقص منه، ولا يغير شيئا من صفاته، ولا حركاته، ولا سكناته، ولا ينقل حجرًا عن مقره، ولا يحول ماء عن ممره، ولا يهدي ضالا ولا يضل مهتديا، ولا يحرك ساكنا ولا يسكن متحركا، ففي الجملة لا يقدر إلا على ما وجد؛ لأن ما وجد فعينه ثابتة في العدم، ولا يقدر على أكثر من ظهوره في تلك الأعيان‏.‏
وهذا التجهيل والتعجيز الذي ذكره، وزعم أنه هو سر القدر وإن كان قد تضمن بعض ما قاله غيره من الضلال ففيه من الكفر ما لا يرضاه غيره من الضالين‏.‏
فإن القائلين بأن المعدوم شيء يقولون ذلك في كل ممكن كان أو لم يكن، ولا يجعلون علمه بالأشياء مستفادًا من الأشياء قبل أن يكون وجودها، ولا أن خلقه وقدرته مقصورة على ما علمه منها، فإنه يعلم أنواعا من الممكنات لم يخلقها فمعلومه من الممكنات أوسع مما خلقه، ولا يجعلون المانع من أن يخلق غير ما خلق هو كون الأعيان الثابتة في العدم لا تقبل سوى هذا الوجود، بل يمكن عندهم وجودها على صفة أخرى، هي أيضا من الممكن الثابت في العدم‏.‏
فلا يفضي قولهم لا إلى تجهيل، ولا إلى تعجيز من هذا الوجه، وإنما

 

ص -213-   قد يقولون‏: المانع من ذلك أن هذا هو أكمل الوجوه وأصلحها، فعلمه بأنه لا أكمل من هذا يمنعه أن يريد ما ليس أكمل بحكمته، فيجعلون المانع أمرًا يعود إلى نفسه المقدسة، حتى لا يجعلونه ممنوعا من غيره‏.‏
فأين من لا يجعل له مانعًا من غيره، ولا راد لقضائه، ممن يجعله ممنوعا مصدودا‏؟‏ وأين من يجعله عالما بنفسه، ممن يجعله مستفيدًا للعلم من غيره‏؟‏ وممن هو غني عنه‏؟‏ هذا مع أن أكثر الناس أنكروا على من قال‏: ليس في الإمكان أبدع من هذا العالم‏.‏
الثالث‏: أنه زعم أن من الصنف الذي جعله أعلى أهل الله من يكون في علمه بمنزلة علم الله؛ لأن الأخذ من معدن واحد إذا كشف له عن أحوال الأعيان الثابتة في العدم، فيعلمها من حيث علمها الله، إلا أنه من جهة العبد عناية من الله سبقت له، هي من جملة أحوال عينه، يعرفها صاحب هذا الكشف إذا أطلعه الله على ذلك، فجعل علمه وعلم الله من معدن واحد‏.‏
الرابع‏: أنه جعل الله عالما بها بعد أن لم يكن عالما، واتبع المتشابه الذي هو قوله‏:
‏{‏حَتَّى نَعْلَمَ‏}‏‏[‏محمد‏: 31‏]‏، وزعم أنها كلمة محققة المعنى، بناء على أصله الفاسد أن وجود العبد هو عين وجود الرب، فكل مخلوق علم ما لم يكن علمه، فهو الله علم ما لم يكن علمه‏.‏
وهذا الكفر ما سبقه إليه كافر، فإن غاية المكذب بقدر الله أن يقول‏: إن الله علم ما لم يكن عالما، أما أنه يجعل كل ما تجدد لمخلوق من العلم فإنما تجدد

 

ص -214-    لله، وأن الله لم يكن عالما بما علمه كل مخلوق، حتى علمه ذلك المخلوق، فهذا لم يفتره غيره‏.‏
الخامس‏: أنه زعم أن التجلي الذاتي، بصورة استعداد المتجلى والمتجلى له، ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وأنه لا يمكن أن يرى الحق مع علمه بأنه ما رأى صورته إلا فيه، وضرب المثل بالمرآة، فجعل الحق هو المرآة، والصورة في المرآة هي صورته‏.‏
وهذا تحقيق ما ذكرته من مذهبه‏: أن وجود الأعيان عنده وجود الحق، والأعيان كانت ثابتة في العدم، فظهر فيها وجود الحق، فالمتجلى له، وهو العبد لا يرى الوجود مجردًا عن الذوات، ما يرى إلا الذوات التي ظهر فيها الوجود، فلا سبيل له إلى رؤية الوجود أبدًا‏.‏ وهذا عنده هو الغاية التي ليس فوقها غاية في حق المخلوق، وما بعده إلا العدم المحض، فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءه، وظهور أحكامها‏.‏
وذلك لأن العبد لا يرى نفسه التي هي عينه إلا في وجود الحق، الذي هو وجوده، والعبد مرآته في رؤيته أسماءه وظهور أحكامها؛ لأن أسماء الحق عنده هي النسب والإضافات، التي بين الأعيان وبين وجود الحق، وأحكام الأسماء هي الأعيان الثابتة في العدم، وظهور هذه الأحكام بتجلي الحق في الأعيان‏.‏
والأعيان التي هي حقيقة العيان هي مرآة الحق، التي بها يرى أسماءه، 

 

ص -215-   وظهور أحكامها، فإنه إذا ظهر في الأعيان، حصلت النسبة التي بين الوجود والأعيان وهي الأسماء وظهرت أحكامها وهي الأعيان ووجود هذه الأعيان هو الحق، فلهذا قال‏: وليست سوى عينه، فاختلط الأمر وانبهم‏.‏
فتدبر هذا من كلامه وما يناسبه، لتعلم ما يعتقده من ذات الحق وأسمائه وأن ذات الحق عنده هي نفس وجود المخلوقات، وأسماءه هي النسب التي بين الوجود والأعيان، وأحكامها هي الأعيان، لتعلم كيف اشتمل كلامه على الجحود للّه ولأسمائه، ولصفاته وخلقه وأمره، وعلى الإلحاد في أسماء اللّه وآياته، فإن هذا الذي ذكره غاية الإلحاد في أسماء اللّه وآياته، الآيات المخلوقة والآيات المتلوة، فإنه لم يثبت له اسمًا ولا آية؛ إذ ليس إلا وجودًا واحدًا، وذاك ليس هو اسما ولا آية، والأعيان الثابتة ليست هي أسماءه ولا آياته، ولما أثبت شيئين فرق بينهما بالوجود والثبوت وليس بينهما فرق اختلط الأمر عليه وانبهم‏.
وهذا حقيقة قوله، وسر مذهبه، الذي يدعى أنه به أعلم العالم بالله، وأنه تقدم بذلك على الصديق، الذي جهل فقال‏: العجز عن درك الإدراك إدراك، وتقدم به على المرسلين، الذين ما علموا ذلك إلا من مشكاته، وفيه من أنواع الكفر والضلال ما يطول عدها‏:
منها‏: الكفر بذات الله؛ إذ ليس عنده إلا وجود المخلوق‏.‏

ص -216-   ومنها‏: الكفر بأسماء الله؛ فإنها ليست عنده إلا أمور عدمية، فإذا قلنا‏: ‏‏{‏الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏2، 3‏]‏ فليس الرب عنده إلا نسبة إلى الثبوت‏.‏
السادس‏: أنه قال‏: فاختلط الأمر وانبهم، أو هو على أصله الفاسد مختلط منبهم، وعلى أصل الهدى والإيمان متميز متبين، قد بين الله بكتابه الحق من الباطل والهدى من الضلال‏.‏
قال‏: فمنا من جهل في علمه فقال‏: العجز عن درك الإدراك إدراك، وهذا الكلام مشهور عندهم نسبته إلى أبي بكر الصديق، فجعله جاهلا، وإن كان هذا اللفظ لم يحفظ عن أبي بكر، ولا هو مأثور عنه في شيء من النقول المعتمدة، وإنما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الشكر نحوًا من ذلك عن بعض التابعين غير مسمى، وإنما يرسل عنه إرسالًا من جهة من يكثر الخطأ في مراسيلهم‏.‏
كما يحكون عن عمر أنه قال‏: كان النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر إذا تخاطبا كنت كالزنجي بينهما‏.‏ وهذا أيضا كذب باتفاق أهل المعرفة‏.‏ وإنما الذي في الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال‏: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، فقال‏:
‏"‏إن عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة فاختار ذلك العبد ما عند الله‏"‏ فبكى أبو بكر، فقال‏: بل نفديك بأنفسنا وأموالنا، أو كما قال‏.‏
فجعل الناس يقولون‏: عجبا لهذا الشيخ، يبكي أن ذكر رسول الله

 

ص -217-    صلى الله عليه وسلم عبدًا خيره الله بين الدنيا والآخرة‏!‏ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير، وكان أبو بكر هو أعلمنا به، فكان أبو بكر هو أعلمهم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقاصده في كلامه، وإن كانوا كلهم مشتركين في فهمه‏.‏
وهذا كما في الصحيح أنه قيل لعلى رضي الله عنه‏: هل ترك عندكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا‏؟‏ وفي لفظ‏: هل عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لم يعهده إلى الناس‏؟‏ فقال‏: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة، إلا فهما يؤتيه الله عبدا في كتابه، وما في هذه الصحيفة‏: وفيها العقل، وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر‏.‏  وبهذا الحديث ونحوه من الأحاديث الصحيحة، استدل العلماء على أن كل ما يذكر عن على وأهل البيت، من أنهم اختصوا بعلم خصهم به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيرهم كذب عليهم، مثل ما يذكر منه الجَفْر، والبطاقة، والجدول، وغير ذلك وما يأثره القرامطة الباطنية عنهم، فإنه قد كذب على جعفر الصادق رضي الله عنه ما لم يكذب على غيره، وكذلك كذب على على رضي الله عنه وغيره من أئمة أهل البيت رضي الله عنهم كما قد بين هذا وبسط في غير هذا الموضع‏.‏
وهكذا يكذب قوم من النساك ومدعي الحقائق على أبي بكر وغيره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاطبه بحقائق لا يفهمها عمر مع حضوره، ثم قد يدعون أنهم عرفوها، وتكون حقيقتها زندقة وإلحادًا‏.‏

ص -218-   وكثير من هؤلاء الزنادقة والجهال قد يحتج على ذلك بحديث أبي هريرة، حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جرابين‏: أما أحدهما فبثثته فيكم، وأما الآخر فلو بثثته لقطعتم هذا الحلقوم‏.‏ وهذا الحديث صحيح، لكن الجراب الآخر لم يكن فيه شيء من علم الدين، ومعرفة الله وتوحيده، الذي يختص به أولياءه‏.‏
ولم يكن أبو هريرة من أكابر الصحابة، الذين يخصون بمثل ذلك لو كان هذا مما يخص به بل كان في ذلك الجراب أحاديث الفتن، التي تكون بين المسلمين، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرهم بما سيكون من الفتن التي تكون بين المسلمين، ومن الملاحم التي تكون بينهم وبين الكفار‏.‏
ولهذا لما كان مقتل عثمان وفتنة ابن الزبير ونحو ذلك، قال ابن عمر‏: لو أخبركم أبو هريرة أنكم تقتلون خليفتكم، وتهدمون البيت وغير ذلك، لقلتم‏: كذب أبو هريرة، فكان أبو هريرة يمتنع من التحديث بأحاديث الفتن قبل وقوعها؛ لأن ذلك مما لا يحتمله رؤوس الناس وعوامهم‏.‏
وكذلك قد يحتجون بحديث حذيفة بن اليمان، وأنه صاحب السر الذي لا يعلمه غيره، وحديث حذيفة معروف، لكن السر الذي لا يعلمه غيره‏: هو معرفته بأعيان المنافقين الذين كانوا في غزوة تبوك، ويقال‏: إنهم كانوا هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم، فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم، فأخبر حذيفة بأعيانهم، ولهذا كان عمر لا يصلي إلا على من صلى عليه حذيفة؛ لأن الصلاة على المنافقين منهي عنها‏.‏
وقد ثبت في الصحيح عن حذيفة، أنه لما ذكر الفتن، وأنه أعلم الناس

 

ص -219-    بها، بين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخصه بحديثها، ولكن حدث الناس كلهم قال‏: وكان أعلمنا أحفظنا‏.‏
ومما يبين هذا‏: أن في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عام الفتح قد أهدر دم جماعة‏: منهم عبد الله بن أبي سرح، فجاء به عثمان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه، فتوقف عنه النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم بايعه وقال‏:
‏"‏أما كان فيكم رجل رشيد ينظر إلى، وقد أمسكت عن هذا فيضرب عنقه‏؟‏‏"‏‏.‏ فقال رجل من الأنصار‏: يا رسول الله، هلا أومأت إلى‏؟‏ فقال‏: ‏"‏ما ينبغي لنبي أن تكون له خائنة الأعين‏"‏‏.‏ فهذا ونحوه مما يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم يستوى ظاهره وباطنه، لا يظهر للناس خلاف ما يبطنه، كما تدعيه الزنادقة من المتفلسفة والقرامطة وضلال المتنسكة ونحوهم‏.‏
السابع‏: أنه قال‏: ‏"‏ومنا من علم فلم يقل مثل هذا، وهو أعلى القول، بل أعطاه العلم والسكوت ما أعطاه العجز، وهذا هو أعلى عالم بالله، وليس هذا العلم إلا لخاتم الرسل وخاتم الأولياء، وما يراه أحد من الأولياء والرسل إلا من مشكاة الرسول الخاتم، ولا يراه أحد من الأولياء إلا من مشكاة الولي الخاتم، حتى إن الرسل لا يرونه متى رأوه، إلا من مشكاة خاتم الأولياء‏.‏
فإن الرسالة والنبوة أعنى نبوة التشريع ورسالته ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبدًا، فالمرسلون من كونهم أولىاء‏: لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء‏؟‏ وإن كان خاتم الأولياء تابعا

 

ص -220-    في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع، فذلك لا يقدح في مقامه، ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون أنزل، كما أنه من وجه يكون أعلى إلى قوله‏: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط من اللبن‏.‏
ففي هذا الكلام من أنواع الإلحاد والكفر، وتنقيص الأنبياء والرسل ما لا تقوله لا اليهود ولا النصارى، وما أشبه في هذا الكلام بما ذكر في قول القائل‏: فخر عليهم السقف من تحتهم، أن هذا لا عقل ولا قرآن‏.‏
وكذلك ما ذكره هنا من أن الأنبياء والرسل تستفيد من خاتم الأولياء الذي بعدهم هو مخالف للعقل، فإن المتقدم لا يستفيد من المتأخر، ومخالف للشرع، فإنه معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأنبياء والرسل أفضل من الأولياء، الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا‏.‏
وقد يزعم أن هذا العلم الذي هو عنده أعلى العلم وهو القول بوحدة الوجود وأن وجود الخالق هو وجود المخلوق، وحقيقة تعطيل الصانع وجحده، وهو القول الذي يظهره فرعون، فلم يكفه زعمه أن هذا حق، حتى زعم أنه أعلى العلم، ولم يكفه ذلك حتى زعم أن الرسل إنما يرونه من مشكاة خاتم الأولياء‏.‏
فجعل خاتم الأولياء أعلم بالله من جميع الأنبياء والرسل، وجعلهم يرون العلم بالله من مشكاته‏.‏
ثم أخذ يبين ذلك فقال‏: فإن الرسالة والنبوة أعني نبوة التشريع

ص -221-    ورسالته ينقطعان والولاية لا تنقطع أبدا‏.‏ فالمرسلون من كونهم أولىاء لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف بالأولياء الذين ليسوا أنبياء ولا رسلا‏؟‏ وذلك أنه لم يمكنهم أن يجعلوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، فإن هذا كفر ظاهر، فزعموا أنه إنما تنقطع نبوة التشريع ورسالته، يعني‏: وأما نبوة التحقيق ورسالة التحقيق وهي الولاية عندهم فلم تنقطع، وهذه الولاية عندهم هي أفضل من النبوة والرسالة؛ ولهذا قال ابن عربي في بعض كلامه‏:
 مقام النبوة في برزخ     فويق الرسول ودون الولي
 وقال في الفصوص في ‏[‏كلمة عزيرية‏]‏‏: ‏فإذا سمعت أحدًا من أهل الله تعالى يقول أو ينقل إليك عنه، أنه قال‏: ‏الولاية أعلى من النبوة، فليس يريد ذلك القائل إلا ما ذكرناه‏.‏
أو يقول‏: إن الولي فوق النبي والرسول، فإنه يعني بذلك في شخص واحد وهو أن الرسول عليه السلام من حيث هو ولي، أتم منه من حيث هو نبي ورسول، لا أن الولي التابع له أعلى منه، فإن التابع لا يدرك المتبوع أبدًا فيما هو تابع له فيه، إذ لو أدركه لم يكن تابعًا له‏.‏
وإذا حوققوا على ذلك قالوا‏: إن ولاية النبي فوق نبوته، وإن نبوته فوق رسالته؛ لأنه يأخذ بولايته عن الله، ثم يجعلون مثل ولايته ثابتة لهم، ويجعلون ولاية خاتم الأولياء أعظم من ولايته، وأن ولاية الرسول تابعة لولاية خاتم الأولياء الذي ادعوه‏.‏
ص -222-   وفي هذا الكلام أنواع قد بيناها في غير هذا الموضع‏:
منها‏: أن دعوى المدعي وجود خاتم الأولياء على ما ادعوه باطل لا أصل له‏.‏
ولم يذكر هذا أحد من المعروفين قبل هؤلاء، إلا أبو عبد الله محمد بن على الترمذي الحكيم، في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏ وقد ذكر في هذا الكتاب ما هو خطأ وغلط، مخالف للكتاب والسنة والإجماع‏.‏
وهو رحمه الله تعالى وإن كان فيه فضل ومعرفة، و له من الكلام الحسن المقبول والحقائق النافعة أشياء محمودة، ففي كلامه من الخطأ ما يجب رده، ومن أشنعها ما ذكره في كتاب ‏[‏ختم الولاية‏]‏، مثل دعواه فيه أنه يكون في المتأخرىن مَنْ درجته عند الله أعظم من درجة أبي بكر، وعمر، وغيرهما‏.‏
ثم إنه تناقض في موضع آخر، لما حكى عن بعض الناس أن الولي يكون منفردًا عن الناس، فأبطل ذلك واحتج بأبي بكر وعمر وقال‏: يلزم هذا أن يكون أفضل من أبي بكر وعمر، وأبطل ذلك‏.‏
ومنها‏: أنه ذكر في كتابه ما يشعر أن ترك الأعمال الظاهرة ولو أنها التطوعات المشروعة أفضل في حق الكامل ذي الأعمال القلبية، وهذا أيضا خطأ عند أئمة الطريق، فإن أكمل الخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخير الهدي هدى محمد صلى الله عليه وسلم، وما زال محافظا على ما يمكنه من الأوراد والتطوعات البدنية إلى مماته‏.‏

ص -223-   ومنها‏: ما ادعاه من خاتم الأولياء، الذي يكون في آخر الزمان، وتفضيله وتقديمه على من تقدم من الأولياء، وأنه يكون معهم كخاتم الأنبياء مع الأنبياء‏.‏ وهذا ضلال واضح، فإن أفضل أولىاء الله من هذه الأمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلى، وأمثالهم من السابقين الأولىن من المهاجرين والأنصار، كما ثبت ذلك بالنصوص المشهورة‏.‏
وخير القرون قرنه صلى الله عليه وسلم، كما في الحديث الصحيح‏:
‏"‏خير القرون قرني الذين بعثت فيهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم‏"‏، وفي الترمذي وغيره أنه قال في أبي بكر وعمر‏: ‏"‏هذان سيدا كهول أهل الجنة، من الأولىن والأخرىن، إلا النبيين والمرسلين‏"‏‏.‏ قال الترمذي حديث حسن‏.‏ وفي صحيح البخاري عن على رضي الله عنه أنه قال له ابنه‏: يا أبت، من خير الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم‏؟‏ فقال‏: ‏يا بني، أبو بكر‏.‏ قال‏: ثم من‏؟‏ قال‏: ثم عمر وروى بضع وثمانون نفسا عنه أنه قال‏: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر‏.‏
وهذا باب واسع، وقد قال تعالى‏: ‏
{‏فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عليهم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏69‏]‏، وهذه الأربعة هي مراتب العباد‏: أفضلهم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون‏.‏  وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل أحد منا نفسه على يونس بن متى مع قوله‏: ‏{‏وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ‏}‏ ‏[‏القلم‏: ‏48‏]‏، وقوله‏: ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏: ‏40‏]‏ تنبيها على أن غيره أولى ألا يفضل أحد نفسه عليه، ففي صحيح البخاري عن ابن

ص -224-   مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏لا يقولن أحدكم‏: إني خير من يونس بن مَتَّى‏"‏‏.‏ وفي صحيح البخاري أيضا عنه قال‏: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏ما ينبغي لعبد أن يكون خيرًا من يونس ابن متى‏"‏، وفي لفظ‏: ‏"‏أن يقول‏: أنا خير من يونس بن مَتى‏"‏، وفي البخاري أيضا عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏: ‏"‏من قال‏: أنا خير من يونس بن متى، فقد كذب‏"‏، وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يعني رسول الله‏: ‏"‏لا ينبغي لعبد أن يقول‏: أنا خير من يونس بن متى‏"‏، ‏"‏وفي الصحيحين عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم وفي لفظ‏: فيما يرويه عن ربه ‏: ‏"‏لا ينبغي لعبد أن يقول‏: أنا خير من يونس بن متى‏"‏، وهذا فيه نهي عام‏.‏
وأما ما يرويه بعض الناس أنه قال‏: ‏"‏لا تفضلوني على يونس بن متى‏"‏، ويفسره باستواء حال صاحب المعراج، وحال صاحب الحوت، فنقل باطل وتفسير باطل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏اثبت أُحُد فما عليك إلا نبي، أو صديق أو شهيد‏"‏، وأبو بكر أفضل الصديقين‏.‏
ولفظ خاتم الأولياء لا يوجد في كلام أحد من سلف الأمة، ولا أئمتها ولا له ذكر في كتاب الله ولا سنة رسوله، وموجب هذا اللفظ أنه آخر مؤمن تقي، فإن الله يقول‏:
‏{‏أَلا إِنَّ أولياء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عليهمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ الآية ‏[‏يونس‏: ‏62‏]‏، فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا‏.‏ وهم على درجتين‏: ‏السابقون المقربون، وأصحاب اليمين المقتصدون، كما قسمهم الله تعالى في سورة فاطر، وسورة الواقعة، والإنسان، والمطففين‏.‏

ص -225-   وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏"‏يقول الله تعالى‏: من عادى لي وليًا فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلى عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلىَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت وأكره مساءته ولابد له منه‏"‏‏.‏ فالمتقربون إلى الله بالفرائض هم الأبرار المقتصدون أصحاب اليمين، والمتقربون إليه بالنوافل التي يحبها بعد الفرائض هم السابقون المقربون، وإنما تكون النوافل بعد الفرائض‏.‏ وقد قال أبو بكر الصديق في وصىته لعمر بن الخطاب‏: اعلم أن لله عليك حقًا بالليل لا يقبله بالنهار، وحقًا بالنهار لا يقبله بالليل، وأنه لا يقبل النافلة حتى تؤدى الفريضة‏.‏
والاتحادية يزعمون أن قرب النوافل يوجب أن يكون عين الحق عين أعضائه، وأن قرب الفرائض يوجب أن يكون الحق عين وجوده كله، وهذا فاسد من وجوه كثيرة، بل كفر صريح، كما بيناه في غير هذا الموضع‏.‏
وإذا كان خاتم الأولياء آخر مؤمن تقي في الدنيا، فليس ذلك الرجل أفضل الأولياء، ولا أكملهم، بل أفضلهم وأكملهم سابقوهم، الذين هم أخص بأفضل الرسل من غيرهم، فإنه كلما كان الولي أعظم اختصاصا بالرسول، وأخذا عنه وموافقة له كان أفضل، إذ الولي لا يكون وليا لله إلا بمتابعة الرسول باطنا وظاهرًا، فعلى قدر المتابعة للرسول يكون قدر الولاية لله‏.‏

ص -226-   والأولياء، وإن كان فيهم محدّثون كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏: ‏"‏إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر‏"‏، فهذا الحديث يدل على أن أول المحدثين من هذه الأمة عمر، وأبو بكر أفضل منه، إذ هو الصديق، فالمحدث وإن كان يلهم ويحدث من جهة الله تعالى فعليه أن يعرض ذلك على الكتاب والسنة، فإنه ليس بمعصوم، كما قال أبو الحسن الشاذلي‏: قد ضمنت لنا العصمة فيما جاء به الكتاب والسنة، ولم تضمن لنا العصمة في الكشوف والإلهام‏.‏
ولهذا كان عمر بن الخطاب وقافًا عند كتاب الله، وكان أبو بكر الصديق يبين له أشياء تخالف ما يقع له، كما بين له يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، ويوم قتال مانعي الزكاة وغير ذلك، وكان عمر بن الخطاب يشاور الصحابة، فتارة يرجع إليهم وتارة يرجعون إليه، وربما قال القول فترد عليه امرأة من المسلمين قوله، وتبين له الحق فيرجع إليها، ويدع قوله كما قدر الصداق، وربما يرى رأيا فيذكر له حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فيعمل به ويدع رأيه، وكان يأخذ بعض السنة عمن هو دونه في قضايا متعددة، وكان يقول القول، فيقال له‏: أصبت، فيقول‏: والله ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه‏؟‏
فإذا كان هذا إمام المحدثين، فكل ذي قلب يحدثه قلبه عن ربه إلى يوم القيامة هو دون عمر، فليس فيهم معصوم، بل الخطأ يجوز عليهم كلهم، وإن

 

ص -227-   كان طائفة تدعي أن الولي محفوظ، وهو نظير ما يثبت للأنبياء من العصمة، والحكيم الترمذي قد أشار إلى هذا، فهذا باطل مخالف للسنة والإجماع‏.‏
ولهذا اتفق المسلمون على أن كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا متفاضلين في الهدى والنور والإصابة، ولهذا كان الصديق أفضل من المحدث؛ لأن الصديق يأخذ من مشكاة النبوة، فلا يأخذ إلا شيئا معصوما محفوظا‏.‏
وأما المحدث فيقع له صواب وخطأ، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه، وبهذا صار جميع الأولياء مفتقرين إلى الكتاب والسنة، لابد لهم أن يزنوا جميع أمورهم بآثار الرسول، فما وافق آثار الرسول فهو الحق، وما خالف ذلك فهو باطل، وإن كانوا مجتهدين فيه، والله تعالى يثيبهم على اجتهادهم، ويغفر لهم خطأهم‏.‏
ومعلوم أن السابقين الأولىن أعظم اهتداء واتباعا للآثار النبوية، فهم أعظم إيمانا وتقوى، وأما آخر الأولياء فلا يحصل له مثل ما حصل لهم‏.‏
والحديث الذي يروى‏: ‏"‏مثل أمتي كمثل الغيث لا يدري أوله خير أم آخره‏؟‏‏"‏، قد تكلم في إسناده، وبتقدير صحته إنما معناه‏: يكون في آخر الأمة من يقارب أولها، حتى يشتبه على بعض الناس أيهما خير، كما يشتبه على بعض الناس طرفا الثوب، مع القطع بأن الأول خير من الآخر؛ ولهذا قال‏: ‏[‏لا يدري‏]‏ ومعلوم أن هذا السلب ليس عاما لها، فإنه لابد أن يكون معلومًا أيهما أفضل‏.‏

ص -228-   ثم إن هذا خاتم الأولياء صار مرتبة موهومة لا حقيقة له، وصار يدعيها لنفسه أو لشيخه طوائف، وقد ادعاها غير واحد، ولم يدعها إلا من في كلامه من الباطل ما لم تقله اليهود ولا النصارى، كما ادعاها صاحب الفصوص، وتابعه صاحب الكلام في الحروف، وشيخ من أتباعهم كان بدمشق، وآخر كان يزعم أنه المهدي، الذي يزوج بنته بعيسى ابن مريم، وأنه خاتم الأولياء، ويدعى هؤلاء وأمثالهم من الأمور ما لا يصلح إلا لله وحده، كما قد يدعي المدعي منهم لنفسه أو لشيخه ما ادعته النصارى في المسيح‏.‏
ثم صاحب الفصوص وأمثاله، بنوا الأمر على أن الولي يأخذ عن الله بلا واسطة، والنبي يأخذ بواسطة الملك؛ فلهذا صار خاتم الأولياء أفضل عندهم من هذه الجهة، وهذا باطل وكذب، فإن الولي لا يأخذ عن الله إلا بواسطة الرسول إليه، وإذا كان محدثا قد ألقى إليه شيء وجب عليه أن يزنه بما جاء به الرسول من الكتاب والسنة‏.‏
وتكليم الله لعباده على ثلاثة أوجه‏:
من وراء حجاب، كما كلم موسى‏.‏
وبإرسال رسول، كما أرسل الملائكة إلى الأنبياء‏.‏
وبالإيحاء، وهذا فيه للولي نصيب، وأما المرتبتان الأولياءن فإنهما للأنبياء خاصة، فالأولياء الذين قامت عليهم الحجة بالرسل لا يأخذون علم الدين إلا بتوسط رسل الله إليهم، ولو لم يكن إلا عرضه على ما جاء به الرسول

 

ص -229-   ولن يصلوا في أخذهم عن الله إلى مرتبة نبي أو رسول، فكيف يكونون آخذين عن الله بلا واسطة، ويكون هذا الأخذ أعلى، وهم لا يصلون إلى مقام تكليم موسى، ولا إلى مقام نزول الملائكة عليهم، كما نزلت على الأنبياء‏؟‏ وهذا دين المسلمين، واليهود، والنصارى‏.‏
وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية، فبنوا على أصلهم الفاسد‏: أن الله هو الوجود المطلق، الثابت لكل موجود، وصار ما يقع في قلوبهم من الخواطر وإن كانت من وساوس الشيطان يزعمون أنهم أخذوا ذلك عن الله بلا واسطة، وأنهم يكلمون كما كلم موسى ابن عمران، وفيهم من يزعمون أن حالهم أفضل من حال موسى بن عمران؛ لأن موسى سمع الخطاب من الشجرة، وهم على زعمهم يسمعون الخطاب من حي ناطق، كما يذكر عن صاحب الفصوص أنه قال‏:
 وكل كلام في الوجود كلامه   سواء علىنا نثره ونظامه
وأعانهم على ذلك ما اعتقدوه من مذاهب الجهمية وأتباعهم الذين يزعمون أن تكليم الله لموسى إنما كان من جنس الإلهام، وأن العبد قد يرى الله في الدنيا إذا زال عن عينه المانع؛ إذ لا حجاب عندهم للرؤية منفصل عن العبد، وإنما الحجاب متصل به، فإذا ارتفع شاهد الحق‏.‏
وهم لا يشاهدون إلا ما يتمثلونه، من الوجود المطلق، الذي لا حقيقة له إلا في أذهانهم، أو من الوجود المخلوق‏.‏ فيكون الرب المشهود عندهم الذي

ص -230-   يخاطبهم في زعمهم لا وجود له إلا في أذهانهم، أو لا وجود له إلا وجود المخلوقات، وهذا هو التعطيل للرب تعالى، ولكتبه، ولرسله، والبدع دهليز الكفر والنفاق، كما أن التشيع دهليز الرفض، والرفض دهليز القرمطة والتعطيل، فالكلام الذي فيه تجهم هو دهليز التجهم، والتجهم دهليز الزندقة والتعطيل‏.‏
وقد ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏واعلموا أن أحدًا منكم لن يرى ربه حتى يموت‏"‏، ولهذا اتفق سلف الأمة وأئمتها على أن الله يرى في الآخرة، وأنه لا يراه أحد في الدنيا بعينه‏.‏
وفي رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه كلام معروف لعائشة وابن عباس‏.‏ فعائشة أنكرت الرؤية، وابن عباس ثبت عنه في صحيح مسلم أنه قال‏: رأى محمد ربه بفؤاده مرتين، وكذلك ذكر أحمد عن أبي ذر وغيره‏: أنه أثبت رؤيته بفؤاده‏.‏ وهذا المنصوص عن ابن عباس وأبي ذر وغيرهما هو المنصوص عن أحمد وغيره من أئمة السنة، ولم يثبت عن أحد منهم إثبات الرؤية بالعين في الدنيا، كما لم يثبت عن أحد منهم إنكار الرؤية في الآخرة‏.‏
ولكن كلا القولين تقول به طوائف من الجهمية، فالنفي يقول به متكلمة الجهمية، والإثبات يقول به بعض متصوفة الجهمية، كالاتحادية، وطائفة من غيرهم، وهؤلاء الاتحادية يجمعون بين النفي والإثبات، كما يقول ابن سبعين‏: عين ما ترى ذات لا تري، وذات لا ترى عين ما ترى، ونحو ذلك؛ لأن

 

ص -231-   مذهبهم مستلزم الجمع بين النقيضين، فهم يقولون في عموم الكائنات ما قالته النصارى في المسيح، ولهذا تنوعوا في ذلك تنوع النصارى في المسيح‏.‏
ومن الأنواع التي في دعواهم أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، من بعض الوجوه، فإن هذا لم يقله أبو عبد الله الحكيم الترمذي، ولا غيره من المشايخ المعروفين، بل الرجل أجل قدرًا، وأعظم إيمانا، من أن يفترى هذا الكفر الصريح، ولكن أخطأ شبرًا، ففرعوا على خطئه ما صار كفرًا‏.‏
وأعظم من ذلك‏: زعمهم أن الأولياء والرسل من حيث ولايتهم تابعون لخاتم الأولياء، وآخذون من مشكاته، فهذا باطل بالعقل والدين، فإن المتقدم لا يأخذ من المتأخر، والرسل لا يأخذون من غيرهم‏.‏
وأعظم من ذلك‏: أنه جعلهم تابعين له في العلم بالله، الذي هو أشرف علومهم، وأظهر من ذلك‏: أنه جعل العلم بالله هو مذهب أهل وحدة الوجود، القائلين بأن وجود المخلوق هو عين وجود الخالق‏.‏
فليتدبر المؤمن هذا الكفر القبيح، درجة بعد درجة، واستشهاده على تفضيل غير النبي عليه بقصة عمر، وتأبير النخل، فهل يقول مسلم‏: إن عمر كان أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم برأيه في الأسرى‏؟‏ أو أن الفلاحين الذين يحسنون صناعة التأبير أفضل من الأنبياء في ذلك‏؟‏ ثم ما قنع بذلك حتى قال‏: فما يلزم الكامل أن يكون له التقدم في كل علم وكل مرتبة، وإنما نظر الرجال إلى التقدم في مرتبة العلم بالله، هنالك مطلبهم‏.‏

ص -232-   فقد زعم أنه أعلم بالله من خاتم الأنبياء، وأن تقدمه عليه بالعلم بالله، وتقدم خاتم الأنبياء عليه بالتشريع فقط، وهذا من أعظم الكفر الذي يقع فيه غالية المتفلسفة، وغالية المتصوفة، وغالية المتكلمة، الذين يزعمون أنهم في الأمور العلمية أكمل من الرسل، كالعلم بالله ونحو ذلك، وأن الرسل إنما تقدموا عليهم بالتشريع العام، الذي جعل لصلاح الناس في دنياهم‏.‏
وقد يقولون‏: إن الشرائع قوانين عدلية، وضعت لمصلحة الدنيا، فأما المعارف والحقائق والدرجات العالية في الدنيا والآخرة، فيفضلون فيها أنفسهم، وطرقهم على الأنبياء، وطرق الأنبياء‏.‏
وقد علم بالاضطرار من دين المسلمين‏: أن هذا من أعظم الكفر والضلال، وكان ذلك من سبب جحد حقائق ما أخبرت به الرسل، من أمر الإيمان بالله واليوم الآخر، وزعمهم أن ما يقوله هؤلاء في هذا الباب هو الحق‏.‏
وصاروا في أخبار الرسل، تارة يكذبونها، وتارة يحرفونها، وتارة يفوضونها، وتارة يزعمون أن الرسل كذبوا لمصلحة العموم‏.‏
ثم عامة الذين يقولون هذه المقالات، يفضلون الأنبياء والرسل على أنفسهم، إلا الغالية منهم كما تقدم فهؤلاء من شر الناس قولا واعتقادًا‏.‏
وقد كان عندنا شيخ من أجهل الناس، كان يعظمه طائفة من الأعاجم، ويقال‏: إنه خاتم الأولياء، يزعم أنه يفسر العلم بوجهين، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فسره بوجه واحد، وأنه هو أكمل من النبي صلى الله عليه وسلم،

 

ص -233-   وهذا تلقاه من صاحب الفصوص، وأمثال هذا في هذه الأوقات كثيرون، وسبب ضلال المتفلسفة، وأهل التصوف والكلام، الموافقة لضلالهم، وليس هذا موضع الإطناب في بيان ضلال هذا، وإنما الغرض التنبيه على أن صاحب الفصوص وأمثاله قالوا قول هؤلاء‏.‏
فأما كفر من يفضل نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر صاحب الفصوص فظاهر، ولكن من هؤلاء من لا يرى ذلك، ولكن يرى أن له طريقًا إلى الله غير اتباع الرسول، ويسوغ لنفسه اتباع تلك الطريق وإن خالف شرع الرسول، ويحتجون بقصة موسى والخضر‏.‏
ولا حجة فيها لوجهين‏:
أحدهما‏: أن موسى لم يكن مبعوثًا إلى الخضر، ولا كان يجب على الخضر اتباع موسى، فإن موسى كان مبعوثًا إلى بني إسرائيل، ولهذا جاء في الحديث الصحيح‏: ‏"‏أن موسى لما سلم على الخضر قال‏: وإني بأرضك السلام‏؟‏ قال‏: أنا موسى، قال‏: موسى بني إسرائيل‏؟‏ قال‏: نعم، قال‏: إنك على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، وأنا على علم من الله علمنيه لا تعلمه‏"‏‏.‏
ولهذا قال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:
‏"‏فضلنا على الناس بخمس‏: ‏جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، فأي رجل أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى

 

ص -234-   الناس عامة‏"‏، وقال‏: ‏"‏أعطيت خمسًا لم يعطهن أحد قبلي‏: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورًا، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة‏"‏، وقد قال تعالى‏: ‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ ‏[‏سبأ‏: ‏28‏]‏، وقال تعالى‏: ‏‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: ‏158‏]‏‏.‏ فمحمد صلى الله عليه وسلم رسول الله إلى جميع الثقلين‏: إنسهم وجنهم، عربهم وعجمهم، ملوكهم وزهادهم، الأولياء منهم وغير الأولياء، فليس لأحد الخروج عن متابعته باطنا وظاهرًا، ولا عن متابعة ما جاء به من الكتاب والسنة، في دقيق ولا جليل، لا في العلوم ولا الأعمال، وليس لأحد أن يقول له كما قال الخضر لموسى، وأما موسى فلم يكن مبعوثًا إلى الخضر‏.‏
الثاني‏: أن قصة الخضر ليس فيها مخالفة للشريعة، بل الأمور التي فعلها تباح في الشريعة، إذا علم العبد أسبابها كما علمها الخضر، ولهذا لما بين أسبابها لموسى وافقه على ذلك، ولو كان مخالفًا لشريعته لم يوافقه بحال‏.‏
وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع، فإن خرق السفينة مضمونه‏: أن المال المعصوم يجوز للإنسان أن يحفظه لصاحبه بإتلاف بعضه، فإن ذلك خير من ذهابه بالكلية، كما جاز للراعي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح الشاة، التي خاف عليها الموت، وقصة الغلام مضمونها‏: جواز قتل الصبي الصائل؛ ولهذا قال ابن عباس لنجدة‏: وأما الغلمان فإن كنت تعلم منهم ما علمه الخضر

 

ص -235-   من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا تقتلهم‏.‏ وأما إقامة الجدار ففيها فعل المعروف بلا أجرة مع الحاجة، إذا كان لذرية قوم صالحين‏.‏
الوجه الثامن‏: أنه قال‏: ولما مثل النبي صلى الله عليه وسلم النبوة بالحائط إلى آخر كلامه وهو متضمن أن العلم نوعان‏أحدهما‏: علم الشريعة، وهو يأخذ عن الله كما يأخذ النبي، فإنه قال‏: والسبب الموجب لكونه رآها لبنتين أنه تابع لشرع خاتم الرسل في الظاهر، وهو موضع اللبنة الفضية، وهو ظاهره، وما يتبعه فيه من الأحكام، كما هو آخذ عن الله في السر ما هو بالصورة الظاهرة، متبع فيه؛ لأنه يرى الأمر على ما هو عليه، فلابد أن يراه هكذا‏.‏
وهذا الذي زعمه من أن الولي يأخذ عن الله في السر ما يتبع فيه الرسل كأئمة العلماء مع أتباعهم فيه من الإلحاد ما لا يخفي على من يؤمن بالله ورسله، فإن هذا يدعي أنه أوتي مثل ما أوتي رسل الله، ويقول‏: إنه أوحي إلى ولم يوح إليه شيء، ويجعل الرسل بمنزلة معلمي الطب والحساب والنحو وغير ذلك، إذا عرف المتعلم الدليل الذي قال به معلمه، فينبغي موافقته له لمشاركته له في العلم لا لأنه رسول وواسطة من الله إليه في تبليغ الأمر والنهي‏.‏
وهذا الكفر يشبه كفر مسيلمة الكذاب ونحوه ممن يدعي أنه مشارك للرسول في الرسالة وكان يقول مؤذنه‏: أشهد أن محمدا ومسيلمة رسولا الله‏.‏

ص -236-   والنوع الثاني‏: علم الحقيقة، وهو فيه فوق الرسول، كما قال‏: هو موضع اللبنة الذهبية في الباطن، فإنه أخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك، الذي يوحى به إلى الرسول، فقد ادعى أن هذا العلم الذي هو موضع اللبنة الذهبية وهو علم الباطن والحقيقة هو فيه فوق الرسول؛ لأنه يأخذه من حيث يأخذ الملك العلم الذي يوحى به إلى الرسول، والرسول يأخذه من الملك، وهو يأخذه من فوق الملك، من حيث يأخذه الملك، وهذا فوق دعوى مسيلمة الكذاب، فإن مسيلمة لم يدع أنه أعلى من الرسول، في علم من العلوم الإلهية، وهذا ادعى أنه فوقه في العلم بالله‏.‏
ثم قال‏: فإن فهمت ما أشرت به، فقد حصل لك العلم النافع‏.‏ ومعلوم أن هذا الكفر فوق كفر اليهود والنصارى، فإن اليهود والنصارى لا ترضي أن تجعل أحدًا من المؤمنين فوق موسى وعيسى، وهذا يزعم أنه هو وأمثاله ممن يدعى أنه خاتم الأولياء أنه فوق جميع الرسل، وأعلم بالله من جميع الرسل، وعقلاء الفلاسفة لا يرضون بهذا، وإنما يقول مثل هذا غلاتهم، وأهل الحمق منهم، الذين هم من أبعد الناس عن العقل والدين‏.‏
التاسع‏: قوله‏: فكل نبي من لدن آدم - إلى آخر الفصل - تضمن أن جميع الأنبياء والرسل لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم النبيين، ليوطن لنفسه بذلك أن جميع الأنبياء لا يأخذون إلا من مشكاة خاتم الأولياء،

 

ص -237-   وكلاهما ضلال، فإن الرسل ليس منهم أحد يأخذ من آخر، إلا من كان مأمورًا باتباع شريعته، كأنبياء بني إسرائيل، والرسل الذين بعثوا فيهم الذين أمروا باتباع التوراة، كما قال تعالى‏: ‏{‏إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏44‏]‏‏.‏ وأما إبراهيم، فلم يأخذ عن موسى وعيسى‏.‏ ونوح لم يأخذ عن إبراهيم‏.‏ ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى لم يأخذوا عن محمد، وإن بشروا به وآمنوا به، كما قال تعالى‏: ‏‏{‏وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ‏}‏ الآية ‏[‏آل عمران‏: ‏81‏]‏‏.‏ قال ابن عباس‏: ما بعث الله نبيا إلا أخذ عليه العهد في أمر محمد، وأخذ العهد على قومه ليؤمنن به، ولئن بعث وهم أحياء لينصرنه‏.‏
العاشر‏: قوله‏: فإنه بحقيقته موجود، وهو قوله‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏"‏‏.‏ بخلاف غيره من الأنبياء، وكذلك خاتم الأولياء، كان وليًا وآدم بين الماء والطين، كذب واضح، مخالف لإجماع أئمة الدين، وإن كان هذا يقوله طائفة من أهل الضلال والإلحاد‏.‏
فإن الله علم الأشياء، وقدرها قبل أن يكونها، ولا تكون موجودة بحقائقها إلا حين توجد، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم، ولم تكن حقيقته صلىالله عليه وسلم موجودة قبل أن يخلق، إلا كما كانت حقيقة غيره، بمعنى أن الله علمها وقدرها‏.‏
لكن كان ظهور خبره واسمه مشهورًا أعظم من غيره، فإنه كان مكتوبًا

ص -238-   في التوراة والإنجيل وقبل ذلك، كما روى الإمام أحمد في مسنده، عن العِرْباض بن سارية، عن النبي صلىالله عليه وسلم قال‏: ‏"‏إني لعبد الله، مكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته، وسأنبئكم بأول ذلك‏: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورؤيا أمي، رأت حين ولدتني كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام‏"‏‏.‏
وحديث ميسرة الفجر‏: قلت يا رسول الله، متى كنت نبيًا‏؟‏ وفي لفظ‏: متي كتبت نبيًا‏؟‏ قال‏: ‏"‏وآدم بين الروح والجسد‏"‏ وهذا لفظ الحديث‏.‏
وأما قوله‏: ‏"‏كنت نبيا وآدم بين الماء والطين‏"‏ فلا أصل له، لم يروه أحد من أهل العلم بالحديث بهذا اللفظ، وهو باطل، فإنه لم يكن بين الماء والطين، إذ الطين؛ ماء وتراب، ولكن لما خلق الله جسد آدم قبل نفخ الروح فيه، كتب نبوة محمد صلىالله عليه وسلم وقدرها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود، قال‏: حدثنا رسول الله صلىالله عليه وسلم، وهو الصادق المصدوق‏: ‏"
‏إن خلق أحدكم يجعل في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات، فيقال‏: اكتب رزقه، وعمله، وأجله، وشقيًا أو سعيدًا، ثم ينفخ فيه الروح‏"‏، وروى أنه كتب اسمه على ساق العرش، ومصاريع الجنة‏.‏ فأين الكتاب والتقدير من وجود الحقيقة‏؟‏
وما يروى في هذا الباب من الأحاديث، هو من هذا الجنس، مثل كونه كان نورًا يسبح حول العرش، أو كوكبًا يطلع في السماء ونحو ذلك، كما ذكره

 

ص -239-   ابن حمويه صاحب ابن عربي وذكر بعضه عمر الملا في وسيلة المتعبدين، وابن سبعين وأمثالهم، ممن يروي الموضوعات المكذوبات، باتفاق أهل المعرفة بالحديث‏.‏
فإن هذا المعنى رووا فيه أحاديث كلها كذب، حتى إنه اجتمع بي قديما شيخ معظم، من أصحاب ابن حمويه، يسميه أصحابه سلطان الأقطاب، وتفاوضنا في كتاب الفصوص، وكان معظما له ولصاحبه، حتى أبديت له بعض ما فيه، فهاله ذلك، وأخذ يذكر مثل هذه الأحاديث، فبينت له أن هذا كله كذب‏.‏
الحادي عشر‏: قوله‏: وخاتم الأولياء كان وليا وآدم بين الماء والطين إلى قوله‏: فخاتم الرسل من حيث ولايته، نسبته مع الختم للولاية، كنسبة الأولياء والرسل معه إلى آخر الكلام ذكر فيه ما تقدم من كون رسول الله صلىالله عليه وسلم مع هذا الختم المدعى كسائر الأنبياء والرسل معه يأخذ من مشكاته العلم بالله، الذي هو أعلى العلم، وهو وحدة الوجود، إنه مقدم الجماعة، وسيد ولد آدم في فتح باب الشفاعة‏.‏ فعين حالا خاصا ما عمم إلى قوله‏: ففاز محمد بالسيادة في هذا المقام الخاص‏.‏
فكذب على رسول الله صلىالله عليه وسلم في قوله‏: إنه قال‏: أنا سيد ولد آدم في الشفاعة خاصة، وألحد وافترى من حيث زعم أنه سيد في الشفاعة فقط، لا في بقية المراتب، بخلاف الختم المفترى، فإنه سيد في العلم بالله، وغير ذلك من المقامات

 

ص -240-   ولقد كنت أقول‏: لو كان المخاطب لنا من يفضل إبراهيم، أو موسى، أو عيسى على محمد صلىالله عليه وسلم، لكانت مصيبة عظيمة لا يحتملها المسلمون، فكيف بمن يفضل رجلا من أمة محمد على محمد، وعلى جميع الأنبياء والرسل في أفضل العلوم‏؟‏‏!‏ ويدعي أنهم يأخذون ذلك من مشكاته‏؟‏ وهذا العلم هو غاية الإلحاد والزندقة‏.‏
وهذا المفضل من أضل بني آدم، وأبعدهم عن الصراط المستقيم، وإن كان له كلام كثير، ومصنفات متعددة، وله معرفة بأشياء كثيرة، وله استحواذ على قلوب طوائف من أصناف المتفلسفة، والمتصوفة، والمتكلمة، والمتفقهة، والعامة، فإن هذا الكلام من أعظم الكلام ضلالا، عند أهل العلم والإيمان‏.‏ والله أعلم‏.‏
وقد تبين أن في هذا الكلام من الكفر، والتنقيص بالرسل، والاستخفاف بهم، والغض منهم، بل والكفر بهم، وبما جاؤوا به، ما لا يخفى على مؤمن، وقد حدثني أحد أعيان الفضلاء‏: أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري رحمة الله عليه يقول‏: رأيت ابن عربي وهو شيخ نجس يكذب بكل كتاب أنزله الله، وبكل نبي أرسله الله‏.‏ ولقد صدق فيما قال، ولكن هذا بعض الأنواع التي ذكرها من الكفر‏.‏
وكذلك قول أبي محمد بن عبد السلام‏: هو شيخ سوء، مقبوح كذاب،

 

ص -241-   يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا، هو حق عنه، لكنه بعض أنواع ما ذكره من الكفر، فإن قوله لم يكن قد تبين له حاله وتحقق، وإلا فليس عنده رب وعالم، كما تقوله الفلاسفة الإلهيون، الذين يقولون بواجب الوجود، وبالعالم الممكن، بل عنده وجود العالم هو وجود الله، وهذا يطابق قول الدهرية الطبائعية، الذين ينكرون وجود الصانع مطلقا، ولا يقرون بوجود واجب غير العالم‏.‏
كما ذكر الله عن فرعون وذويه، وقوله مطابق لقول فرعون، لكن فرعون لم يكن مقرًا بالله، وهؤلاء يقرون بالله، ولكن يفسرونه بالوجود، الذي أقر به فرعون، فهم أجهل من فرعون وأضل، وفرعون أكفر منهم؛ إذ في كفره من العناد والاستكبار ما ليس في كفرهم، كما قال تعالى‏:
‏‏{‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا‏}‏ ‏[‏النمل‏: ‏14‏]‏، وقال له موسى‏: ‏‏{‏لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏102‏]‏‏.‏
وجماع أمر صاحب الفصوص وذويه‏: هدم أصول الإيمان الثلاثة، فإن أصول الإيمان‏: الإيمان بالله، والإيمان برسله، والإيمان باليوم الآخر‏.‏
فأما الإيمان بالله‏: فزعموا أن وجوده وجود العالم، ليس للعالم صانع غير العالم‏.‏
وأما الرسول‏: فزعموا أنهم أعلم بالله منه، ومن جميع الرسل، ومنهم من

ص -242-   يأخذ العلم بالله الذي هو التعطيل ووحدة الوجود من مشكاته، وأنهم يساوونه في أخذ العلم بالشريعة عن الله‏.‏
وأما الإيمان باليوم الآخر‏: ‏فقد قال‏:
 فلم يبق إلا صادق الوعد وحده      وبالوعيد الحق عين تعاين
 وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم    على لذة فيها نعيم يباين
وهذا يذكر عن بعض أهل الضلال قبله أنه قال‏: إن النار تصير لأهلها طبيعة نارية يتمتعون بها، وحينئذ فلا خوف ولا محذور ولا عذاب؛ لأنه أمر مستعذب‏.‏ ثم إنه في الأمر والنهي عنده الآمر، والناهي، والمأمور، والمنهي واحد، ولهذا كان أول ما قاله في الفتوحات المكية التي هي أكبر كتبه‏:
 الرب حق، والعبد حق   يا ليت شعري من المكلف
 إن قلت عبد فذاك رب    أو قلت رب أني يكلف
وفي موضع آخر‏: ‏[‏فذاك ميت‏]‏ رأيته بخطه‏.‏
وهذا مبني على أصله، فإن عنده ما ثم عبد ولا وجود إلا وجود الرب، فمن المكلف‏؟‏ وعلى أصله هو المكلِّف والمكلَّف كما يقولون‏: أرسل من نفسه إلى نفسه رسولا‏.‏

ص -243-   وكما قال ابن الفارض في قصيدته التي نظمها على مذهبهم، وسماها نظم السلوك‏:
 إلىَّ رسولا كنت مني مرسلا     وذاتي بآياتي على استدلت
ومضمونها‏: هو القول بوحدة الوجود، وهو مذهب ابن عربي، وابن سبعين، وأمثالهم، كما قال‏:
 لها صلاتي، بالمقام أقيمها   وأشهد فيها أنها لي صلت
 كلانا مصل، عابد ساجد إلى     حقيقة الجمع في كل سجدة
 وما كان لي صلى سواي، فلم تكن    صلاتي لغيري، في أدا كل ركعة
إلى قوله‏:
 وما زلت إياها، وإياي لم تزل   ولا فرق، بل ذاتي لذاتي أحبت
ومثل هذا كثير، والله أعلم‏.‏
وحدثني صاحبنا الفقيه الصوفي، أبو الحسن على بن قرباص‏: أنه دخل على الشيخ قطب الدين بن القسطلاني، فوجده يصنف كتابا‏.‏ فقال‏: ما هذا‏؟‏ فقال‏: هذا في الرد على ابن سبعين، وابن الفارض، وأبي الحسن الجزلي، والعفيف التلمساني‏.‏
وحدثني عن جمال الدين بن واصل، وشمس الدين الأصبهاني‏: أنهما كانا

ص -244-   ينكران كلام ابن عربي ويبطلانه، ويردان عليه، وأن الأصبهاني رأي معه كتابًا من كتبه فقال له‏: إن اقتنيت شيئا من كتبه فلا تجئ إلى، أو ما هذا معناه‏.‏
وإن ابن واصل لما ذكر كلامه في التفاحة، التي انقلبت عن حوراء فتكلم معها أو جامعها فقال‏: والله الذي لا إله إلا هو، يكذب‏.‏ ولقد بر في يمينه‏.‏
وحدثني صاحبنا العالم الفاضل أبو بكر بن سالار‏: عن الشيخ تقي الدين ابن دقيق العيد شيخ وقته عن الإمام أبي محمد بن عبد السلام، أنهم سألوه عن ابن عربي، لما دخل مصر، فقال‏: شيخ سوء كذاب مقبوح، يقول بقدم العالم، ولا يحرم فرجا‏.‏ وكان تقي الدين يقول‏: هو صاحب خيال واسع‏.‏ حدثني بذلك غير واحد من الفقهاء المصريين ممن سمع كلام ابن دقيق العيد‏.‏
وحدثني ابن بحير عن رشيد الدين سعيد وغيره أنه قال‏: كان يستحل الكذب، هذا أحسن أحواله‏.‏
وحدثني الشيخ العالم العارف، كمال الدين المراغي، شيخ زمانه، أنه لما قدم وبلغه كلام هؤلاء في التوحيد قال‏: قرأت على العفيف التلمساني من كلامهم شيئا، فرأيته مخالفًا للكتاب والسنة، فلما ذكرت ذلك له قال‏: القرآن ليس فيه توحيد، بل القرآن كله شرك، ومن اتبع القرآن لم يصل إلى التوحيد، قال‏: فقلت له‏: ما الفرق عندكم بين الزوجة، والأجنبية، والأخت، الكل واحد‏؟‏

ص -245-   قال‏: ‏لا فرق بين ذلك عندنا، وإنما هؤلاء المحجوبون اعتقدوه حراما، فقلنا‏: هو حرام عليهم عندهم، وأما عندنا فما ثم حرام‏.‏
وحدثني كمال الدين المراغي، أنه لما تحدث مع التلمساني في هذا المذهب قال وكنت أقرأ عليه في ذلك‏: فإنهم كانوا قد عظموه عندنا، ونحن مشتاقون إلى معرفة ‏[‏فصوص الحكم‏]‏ فلما صار يشرحه لي أقول‏: هذا خلاف القرآن والأحاديث، فقال‏: ارم هذا كله خلف الباب، واحضر بقلب صاف، حتى تتلقى هذا التوحيد أو كما قال ثم خاف أن أشيع ذلك عنه، فجاء إليَّ باكيا وقال‏: اسْتُر عني ما سمعتَه مني‏.‏
وحدثني أيضا كمال الدين، أنه اجتمع بالشيخ أبي العباس الشاذلي، تلميذ الشيخ أبي الحسن، فقال عن التلمساني‏: هؤلاء كفار، هؤلاء يعتقدون أن الصنعة هي الصانع‏.‏
قال‏: وكنت قد عزمت على أن أدخل الخلوة على يده، فقلت‏: أنا لا آخذ عنه هذا، وإنما أتعلم منه أدب الخلوة، فقال لي‏: مثلك مثل من يريد أن يتقرب إلى السلطان، على يد صاحب الأتون والزبال، فإذا كان الزبال هو الذي يقربه إلى السلطان، كيف يكون حاله عند السلطان‏؟‏
وحدثنا أيضا قال‏: قال لي قاضي القضاة تقي الدين ابن دقيق العيد‏: إنما استولت التتار على بلاد المشرق، لظهور الفلسفة فيهم، وضعف

ص -246-   الشريعة، فقلت له‏: ففي بلادكم مذهب هؤلاء الذين يقولون بالاتحاد، وهو شر من مذهب الفلاسفة‏؟‏ فقال‏: قول هؤلاء لا يقوله عاقل، بل كل عاقل يعلم فساد قول هؤلاء يعني أن فساده ظاهر فلا يذكر هذا فيما يشتبه على العقلاء، بخلاف مقالة الفلاسفة، فإن فيها شيئا من المعقول، وإن كانت فاسدة‏.‏
وحدثني تاج الدين الأنباري، الفقيه المصري الفاضل، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول‏: رأيت ابن عربي شيخا مخضوب اللحية، وهو شيخ نجس، يكفر بكل كتاب أنزله الله، وكل نبي أرسله الله‏.‏
وحدثني الشيخ رشيد الدين بن المعلم أنه قال‏: كنت وأنا شاب بدمشق أسمع الناس يقولون عن ابن عربي، والخسروشاهي‏: إن كليهما زنديق أوكلامًا هذا معناه‏.‏ وحدثني عن الشيخ إبراهيم الجعبري‏: أنه حضر ابن الفارض عند الموت وهو ينشد‏:
 إن كان منزلتي في الحب عندكم    ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
 أمنية ظفرت نفسي بها زمنا     واليوم أحسبها أضغاث أحلام
وحدثني الفقيه الفاضل تاج الدين الأنباري، أنه سمع الشيخ إبراهيم الجعبري يقول‏: رأيت في منامي ابن عربي، وابن الفارض، وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان‏: كيف الطريق‏؟‏ أين الطريق ‏؟‏

ص -247-   وحدثني شهاب الدين المزي، عن شرف الدين بن الشيخ نجم الدين بن الحكيم عن أبيه أنه قال‏: قدمت دمشق فصادفت موت ابن عربي، فرأيت جنازته كأنما ذر عليها الرماد، فرأيتها لا تشبه جنائز الأولياء أو قال‏: فعلمت أن هذه أو نحو هذا‏.‏ وعن أبيه عن الشيخ إسماعيل الكوراني أنه كان يقول‏: ابن عربي شيطان‏.‏ وعنه أنه كان يقول عن الحريري‏: إنه شيطان‏.‏
وحدثني شهاب الدين عن القاضي شرف الدين البازيلي، أن أباه كان ينهاه عن كلام ابن عربي، وابن الفارض، وابن سبعين‏.

ص -248-   فصل‏:
في بعض ما يظهر به كفرهم، وفساد قولهم‏.‏ وذلك من وجوه‏:
أحدها‏: أن حقيقة قولهم‏: أن الله لم يخلق شيئا، ولا ابتدعه، ولا برأه ولا صوره؛ لأنه إذا لم يكن وجود إلا وجوده، فمن الممتنع أن يكون خالقًا لوجود نفسه، أو بارئا لذاته، فإن العلم بذلك من أبين العلوم، وأبدهها للعقول، أن الشيء لا يخلق نفسه‏.‏
ولهذا قال سبحانه‏: ‏
{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ ‏[‏الطور‏: ‏35‏]‏‏.‏ فإنهم يعلمون أنهم لم يكونوا مخلوقين من غير خالق، ويعلمون أن الشيء لا يخلق نفسه فتعين أن لهم خالقا‏.‏
وعند هؤلاء الكفار، الملاحدة الفرعونية‏: أنه ما ثم شيء يكون الرب قد خلقه أو برأه، أو أبدعه إلا نفسه المقدسة، ونفسه المقدسة لا تكون إلا مخلوقة، مربوبة مصنوعة، مبروءة، لامتناع ذلك في بدائه العقول، وذلك من أظهر الكفر عند جميع أهل الملل والآراء‏.‏
وأما على رأي صاحب الفصوص‏: فما ثم إلا وجوده، والذوات الثابتة في العدم الغنية عنه، ووجوده لا يكون مخلوقا، والذوات غنية عنه، فلم يخلق الله شيئا‏.‏

ص -249-   الثاني‏: أن عندهم أن الله ليس رب العالمين، ولا مالك الملك، إذ ليس إلا وجوده، وهو لا يكون رب نفسه، ولا يكون الملك المملوك هو الملك المالك، وقد صرحوا بهذا الكفر مع تناقضه، وقالوا‏: إنه هو ملك الملك، بناء على أن وجوده مفتقر إلى ذوات الأشياء، وذوات الأشياء مفتقرة إلى وجوده، فالأشياء مالكة لوجوده، فهو ملك الملك‏.‏
الثالث‏: أن عندهم أن الله لم يرزق أحدًا شيئا، ولا أعطى أحدًا شيئا، ولا رحم أحدًا، ولا أحسن إلى أحد، ولا هدى أحدًا، ولا أنعم على أحد نعمة، ولا علم أحدًا علما، ولا علم أحدًا البيان، وعندهم في الجملة‏: لم يصل منه إلى أحد لا خير ولا شر، ولا نفع ولا ضر، ولا عطاء ولا منع، ولا هدى ولا إضلال أصلا‏.‏ وأن هذه الأشياء جميعها عين نفسه، ومحض وجوده، فليس هناك غير يصل إليه، ولا أحد سواه ينتفع بها، ولا عبد يكون مرزوقا، أو منصورًا، أو مهديا‏.‏
ثم على رأى صاحب الفصوص‏: أن هذه الذوات ثابتة في العدم، والذوات هي أحسنت وأساءت، ونفعت وضرت، وهذا عنده سر القدر‏.‏
وعلى رأي الباقين ما ثم ذات ثابتة غيره أصلا، بل هو ذام نفسه بنفسه، ولاعن نفسه بنفسه، وقاتل نفسه بنفسه، وهو المرزوق المضروب المشتوم، وهو الناكح والمنكوح، والآكل والمأكول، وقد صرحوا بذلك تصريحا بينًا‏.‏
الرابع‏: أن عندهم أن الله هو الذي يركع ويسجد، ويخضع ويعبد،

 

ص -250-   ويصوم ويجوع، ويقوم وينام، وتصيبه الأمراض والأسقام، وتبتليه الأعداء ويصيبه البلاء، وتشتد به اللأواء، وقد صرحوا بذلك، وصرحوا بأن كل كرب يصيب النفوس فإنه هو الذي يصيبه الكرب، وأنه إذا نفس الكرب، فإنما يتنفس عنه؛ ولهذا كره بعض هؤلاء الذين هم من أكفر خلق الله وأعظمهم نفاقا وإلحادًا وعتوًا على الله وعنادًا أن يصبر الإنسان على البلاء؛ لأن عندهم أنه هو المصاب المبتلى‏.‏
وقد صرحوا بأنه موصوف بكل نقص وعيب، فإنه ما ثم من يتصف بالنقائص والعيوب غيره، فكل عيب ونقص، وكفر وفسوق في العالم، فإنه هو المتصف به، لا متصف به غيره، كلهم متفقون على هذا في الوجود‏.‏
ثم صاحب الفصوص يقول‏: إن ذلك ثابت في العدم، وغيره يقول‏: ما ثم سوى وجود الحق، الذي هو متصف بهذه المعايب والمثالب‏.‏
الخامس‏: أن عندهم أن الذين عبدوا اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى، والذين عبدوا ودًا، وسواعًا، ويغوث، ويعوق، ونسرًا، والذين عبدوا الشعرى، والنجم، والشمس، والقمر‏.‏ والذين عبدوا المسيح، وعزيرًا، والملائكة، وسائر من عبد الأوثان والأصنام‏: من قوم نوح، وعاد، وثمود، وقوم فرعون، وبني إسرائيل، وسائر المشركين من العرب، ما عبدوا إلا الله، ولا يتصور أن يعبدوا غير الله، وقد صرحوا بذلك في مواضع كثيرة، مثل قول صاحب الفصوص في فص الكلمة النوحية‏:

 

ص -251-   {‏وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏22‏]‏، لأن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو؛ لأنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية‏ {‏أَدْعُو إِلَى اللّهِ‏}‏ فهذا عين المكر ‏{‏عَلَى بَصِيرَةٍ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: 108‏]‏ ففيه أن الأمر له كله، فأجابوه مكرًا كما دعاهم إلى أن قال‏: فقالوا في مكرهم‏: ‏{‏لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏23‏]‏ فإنهم إذا تركوهم جهلوا من الحق على قدر ما تركوا من هؤلاء، فإن للحق في كل معبود وجها خاصا، يعرفه من عرفه، ويجهله من جهله في المحمديين ‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏ أي‏: حكم، فالعالم يعلم من عبد، وفي أي صورةظهر حتى عبد، وأن التفريق والكثرة كالأعضاء في الصورة المحسوسة، وكالقوى المعنوية في الصورة الروحانية‏.‏ فما عبد غير الله في كل معبود، فالأدنى من تخيل فيه الألوهية، فلولا هذا التخيل ما عبد الحجر ولا غيره؛ ولهذا قال تعالى‏: ‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏33‏]‏ فلو سموهم لسموهم حجرًا وشجرًا وكوكبًا‏.‏ ولو قيل لهم‏: من عبدتم‏؟‏ لقالوا‏: إلها واحدًا، ما كانوا يقولون‏: الله ولا الإله، إلا على ما تخيل، بل قال‏: هذا مجلى إلهي ينبغي تعظيمه فلا يقتصر، فالأدنى صاحب التخيل يقول‏: ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏، والأعلى العالم يقول‏: ‏{‏فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا‏}‏، حيث ظهر ‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ الَّذِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏34، 35‏]‏ خبت نار طبيعتهم فقالوا‏: ‏[‏إلها‏]‏ ولم يقولوا‏: ‏[‏طبيعة‏]‏‏.‏
وقال أيضا في فص الهارونية‏: ثم قال هارون لموسى‏:
‏{‏إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏94‏]‏،

 

ص -252-   فتجعلني سببًا في تفريقهم، فإن عبادة العجل فرقت بينهم، فكان فيهم من عبده اتباعا للسامري، وتقليدا له، ومنهم من توقف عن عبادته، حتى يرجع موسى إليهم فيسألونه في ذلك، فخشى هارون أن ينسب ذلك التفريق بينهم إليه، فكان موسى أعلم بالأمر من هارون؛ لأنه علم ما عبده أصحاب العجل، لعلمه بأن الله قد قضى ألا يعبد إلا إياه، وما حكم الله بشيء إلا وقع، فكان عتب موسى أخاه هارون، لما وقع الأمر في إنكاره، وعدم اتساعه، فإن العارف من يري الحق في كل شِيء، بل يراه عين كل شيء، فكان موسى يربي هارون تربية علم، وإن كان أصغر منه في السن‏.‏
ولذلك لما قال له هارون ما قال، رجع إلى السامري فقال له‏:
‏{‏فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏95‏]‏ يعني‏: ‏فيما صنعت من عدولك إلى صورة العجل، على الاختصاص، وساق الكلام إلى أن قال‏: فكان عدم قوة إرداع هارون بالفعل أن ينفذ في أصحاب العجل بالتسليط على العجل، كما سلط موسى عليه، حكمة من الله ظاهرة في الوجود، ليعبد في كل صورة وإن ذهبت تلك الصورة بعد ذلك‏.‏ فما ذهبت إلا بعد ما تلبست عند عابدها بالألوهية‏.‏ ولهذا ما بقي نوع من الأنواع إلا وعبد، إما عبادة تأله، وإما عبادة تسخير، ولابد من ذلك لمن عقل، وما عبد شيء من العالم إلا بعد التلبس بالرفعة عند العابد، والظهور بالدرجة في قلبه‏.‏

ص -253-   ولذلك تسمى الحق لنا برفيع الدرجات، ولم يقل‏: رفيع الدرجة، فكثر الدرجات في عين واحدة، فإنه قضى ألا يعبد إلا إياه في درجات كثيرة مختلفة، أعطت كل درجة مجلى إلهيًا عبد فيها، وأعظم مجلى عبد فيه، وأعلاه الهوى كما قال‏: ‏‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ ٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏: ‏23‏]‏، فهو أعظم معبود، فإنه لا يعبد شيء إلا به، ولا يعبد هو إلا بذاته‏.‏ وفيه أقول‏:
 وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى  ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى
ألا ترى علم الله بالأشياء ما أكمله ‏!‏ كيف تمم في حق من عبد هواه، واتخذه إلهًا، فقال‏: ‏{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏: 23‏]‏ والضلالة الحيرة، وذلك أنه لما رأى هذا العابد ما عبد إلا هواه، بانقياده لطاعته فيما يأمره به، من عبادة من عبده من الأشخاص، حتى إن عبادة الله كانت عن هوى أيضا، فإنه لو لم يقع له في ذلك الجناب المقدس هوى، وهو الإرادة بمحبة ما عبد الله، ولا آثره على غيره‏.‏
وكذلك كل من عبد صورة ما من صور العالم، واتخذها إلها ما اتخذها إلا بالهوى، فالعابد لا يزال تحت سلطان هواه، ثم رأى المعبودات تتنوع في العابدين، فكل عابد أمرًا ما يكفر من يعبد سواه، والذي عنده أدنى تنبه يحار لاتحاد الهوى، بل لإحدىة الهوى كما ذكر، فإنه عين واحدة في كل عابد ف ‏
{‏وَأَضَلَّهُ اللَّهُ‏}‏ أي حيره الله على علم، بأن كل عابد ما عبد إلا هواه، ولا استعبده إلا هواه، سواء

ص -254-   صادف الأمر المشروع أو لم يصادف‏.‏ والعارف المكمل من رأى كل معبود مجلى للحق يعبد فيه‏.‏
ولذلك سموه كلهم إلهًا مع اسمه الخاص شجر، أو حجر، أو حيوان، أو إنسان، أو كوكب، أو ملك، هذا اسم الشخصية فيه، والألوهية مرتبة تخيل العابد له، أنها مرتبة معبوده، وهي على الحقيقة مجلى الحق لبصر هذا العابد، المعتكف على هذا المعبود في هذا المجلى المختص بحجر‏.‏
ولهذا قال بعض من لم يعرف مقاله جهالة‏:
‏‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ ‏[‏الزمر‏: ‏3‏]‏ مع تسميتهم إياهم آلهة، كما قالوا‏: ‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ‏}‏ ‏[‏ص‏: ‏5‏]‏ فما أنكروه بل تعجبوا من ذلك، فإنهم وقفوا مع كثرة الصورة، ونسبة الألوهية لها، فجاء الرسول ودعاهم إلى إله واحد يعرف، ولا يشهد بشهادتهم أنهم أثبتوه عندهم، واعتقدوه في قولهم‏: ‏{‏مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى‏}‏ لعلمهم بأن تلك الصور حجارة‏.‏
ولذلك قامت الحجة عليهم بقوله‏:
‏{‏قُلْ سَمُّوهُمْ‏}‏ ‏[‏الرعد‏: ‏33‏]‏ فما يسمونهم إلا بما يعلمون أن تلك الأسماء لهم حقيقة كحجر، وخشب، وكوكب، وأمثالها‏.‏
وأما العارفون بالأمر على ما هو عليه، فيظهرون بصورة الإنكار لما عبد من الصور؛ لأن مرتبتهم في العلم تعطيهم أن يكونوا بحكم الوقت، لحكم الرسول الذي آمنوا به عليهم، الذي به سموا مؤمنين، فهم عباد الوقت، مع علمهم بأنهم ما عبدوا من تلك الصور أعيانها، وإنما عبدوا الله فيها بحكم سلطان التجلي،

 

ص -255-   الذي عرفوه منهم، وجهله المنكر الذي لا علم له بما يتجلى، وستره العارف المكمل من نبي أو رسول، أو وارث عنهم‏.‏
فأمرهم بالانتزاح عن تلك الصور، لما انتزح عنها رسول الوقت اتباعًا للرسول، طمعًا في محبة الله إياهم بقوله‏:
‏‏{‏قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏: ‏31‏]‏ فدعا إلى إله يصمد إليه، ويعلم من حيث الجملة، ولا يشهد، ولا تدركه الأبصار، بل هو يدرك الأبصار للطفه وسريانه في أعيان الأشياء، فلا تدركه الأبصار، كما أنها لا تدرك أرواحها المدبرة أشباحها، وصورها الظاهرة، فهو اللطيف الخبير، والخبرة ذوق، والذوق تجل والتجلى في الصور، فلابد منها ولابد منه، فلابد أن يعبده من رآه بهواه إن فهمت هذا‏.‏ اه‏.‏
فتدبر حقيقة ما عليه هؤلاء، فإنهم أجمعوا على كل شرك في العالم، وعدلوا بالله كل مخلوق، وجوزوا أن يعبد كل شيء، ومع كونهم يعبدون كل شيء فيقولون‏: ما عبدنا إلا الله‏.‏
فاجتمع في قولهم أمران‏: كل شرك، وكل جحود وتعطيل، مع ظنهم أنهم ما عبدوا إلا الله، ومعلوم أن هذا خلاف دين المرسلين كلهم، وخلاف دين أهل الكتاب كلهم، والملل كلها، بل وخلاف دين المشركين أيضا، وخلاف ما فطر الله عليه عباده مما يعقلونه بقلوبهم ويجدونه في نفوسهم وهو في غاية الفساد، والتناقض، والسفسطة، والجحود لرب العالمين‏.‏
وذلك أنه علم بالاضطرار‏: أن الرسل كانوا يجعلون ما عبده المشركون

 

ص -256-   غير الله، ويجعلون عابده عابدًا لغير الله، مشركا بالله عادلا به، جاعلا له ندًا، فإنهم دعوا الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذا هو دين الله، الذي أنزل به كتبه، وأرسل به رسله، وهو الإسلام العام، الذي لا يقبل الله من الأولىن والأخرىن غيره، ولا يغفر لمن تركه بعد بلاغ الرسالة، كما قال‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء‏}‏ ‏[‏النساء‏: ‏48‏]‏‏.‏
وهو الفارق بين أهل الجنة وأهل النار، والسعداء والأشقياء، كما قال النبي صلىالله عليه وسلم‏:
‏"‏من كان آخر كلامه لا إله إلا الله‏: وجبت له الجنة‏"‏، وقال‏: ‏"‏من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله وجبت له الجنة‏"‏، وقال‏: ‏"‏إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد عند الموت، إلا وجد روحه لها روحًا، وهي رأس الدين‏"‏، وكما قال‏: ‏"‏أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم، وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله‏"‏‏.‏
وفضائل هذه الكلمة وحقائقها، وموقعها من الدين‏: فوق ما يصفه الواصفون، ويعرفه العارفون، وهي حقيقة الأمر كله، كما قال تعالى‏: ‏‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏25‏]‏، فأخبر سبحانه أنه يوحى إلى كل رسول بنفي الألوهية عما سواه وإثباتها له وحده‏.‏ وزعم هؤلاء الملاحدة المشركون‏: أن كل شيء يستحق الألوهية كاستحقاق الله لها، وقال تعالى‏: ‏{‏وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏: ‏45‏]‏،

 

ص -257-   وزعم هؤلاء الملاحدة أن كل شيء فإنه إله معبود، فأخبر سبحانه أنه لم يجعل من دون الرحمن آلهة، وقال تعالى‏: ‏‏{‏وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏36‏]‏‏.‏ فأمر الله سبحانه بعبادته واجتناب الطاغوت‏.‏ وعند هؤلاء‏: أن الطواغيت جميعها فيها الله، أو هي الله، و من عبدها فما عبد إلا الله، وقال تعالى‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏ الآيتين ‏[‏البقرة‏: ‏21‏]‏‏.‏ فأمر سبحانه بعبادة الرب الخالق لهذه الآيات، وعند هؤلاء الملاحدة الملاعين‏: هو عين هذه الآيات، ونهى سبحانه أن يجعل الناس له أندادًا، وعندهم هذا لا يتصور، فإن الأنداد هي عينه، فكيف يكون ندًا لنفسه‏؟‏ والذين عبدوا الأنداد فما عبدوا سواه‏.‏
ثم إن هؤلاء الملاحدة احتجوا بتسمية المشركين لما عبدوه إلهًا، كما قالوا‏:
‏{‏أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا‏}‏ ‏[‏ص‏: 5‏]‏، واعتقدوا أنهم لما سموهم آلهة كانت تسمية المشركين دليلا على أن الإلهية ثابتة لهم‏.‏
وهذه الحجة قد ردها الله على المشركين في غير موضع، كقوله سبحانه عن هود في مخاطبته للمشركين من قومه‏:
‏{‏أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: ‏71‏]‏، هذا رد لقولهم‏: ‏{‏أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏: ‏70‏]‏، فأخبر رسول الله صلىالله عليه وسلم، أن تسميتهم إياها آلهة

 

ص -258-   ومعبودين تسمية ابتدعوها هم وآباؤهم، ما أنزل الله بها من حجة ولا سلطان، والحكم ليس إلا لله وحده‏.‏
وقد أمر هو سبحانه ألا يعبد إلا إياه، فكيف يحتج بقول مشركين لا حجة لهم‏؟‏ وقد أبطل الله قولهم وأمر الخلق ألا يعبدوا إلا إياه دون هذه الأوثان، التي سماها المشركون آلهة، وعند الملاحدة عابدو الأوثان ما عبدوا إلا الله‏.‏
ثم إن المشركين أنكروا على الرسول، حيث جاءهم ليعبدوا الله وحده، ويذروا ما كان يعبد آباؤهم، فإذا كانوا هم ما زالوا يعبدون الله وحده، كما تزعمه الملاحدة، فلم يدعو إلى ترك ما يعبده آباؤهم، بل جاءهم ليعبد كل شيء كان يعبده آباؤهم هو وغيره من الأنبياء‏.‏
وكذلك قال سبحانه في سورة يوسف عنه‏:
‏{‏يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏39، 40‏]‏، وقال سبحانه‏: ‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى‏}‏ ‏[‏النجم‏: ‏19‏: 23‏]‏‏.‏ وهذه الثلاثة المذكورة في هذه السورة هي الأوثان العظام الكبار، التي كان المشركون ينتابونها من أمصارهم، فاللات‏: كانت حذو قديد بالساحل

 

ص -259-   لأهل المدينة، والعزى‏: كانت قريبة من عرفات لأهل مكة، ومناة‏: كانت بالطائف لثقيف، وهذه الثلاث هي أمصار أرض الحجاز‏.‏
أخبر سبحانه أن الأسماء التي سماها المشركون أسماء ابتدعوها لا حقيقة لها، فهم إنما يعبدون أسماء لا مسميات لها، لأنه ليس في المسمى من الألوهية، ولا العزة، ولا التقدير شيء، ولم ينزل الله سلطانا بهذه الأسماء، إن يتبع المشركون إلا ظنا لا يغني من الحق شيئا، في أنها آلهة تنفع وتضر، ويتبعوا أهواء أنفسهم‏.‏
وعند الملاحدة أنهم إذا عبدوا أهواءهم فقد عبدوا الله، وقد قال سبحانه عن إمام الأئمة، وخليل الرحمن، وخير البرية بعد محمد صلىالله عليه وسلم أنه قال لأبيه‏:
‏{‏يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏42‏: 45‏]‏ فنهاه وأنكر عليه أن يعبد الأوثان، التي لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني عنه شيئا‏.‏
وعلى زعم هؤلاء الملحدين فما عبدوا غير الله في كل معبود فيكون الله هو الذي لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغني عنه شيئا، وهو الذي نهاه عن عبادته، وهو الذي أمره بعبادته‏.‏ وهكذا قال أحذق طواغيتهم الفاجر التلمساني في قصيدة له‏:
 يا عاذلي أنت تنهاني، وتأمرني     والوجد أصدق نهَّاء وأمَّار

ص -260-    فإن أطعك وأعص الوجد عدت عمي  عن العيان إلى أوهام أخبار
 وعين ما أنت تدعوني إليه إذا     حققته تره المنهي يا جاري‏
وقد قال أيضا إبراهيم لأبيه‏: ‏‏{‏يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏: ‏44‏]‏، وعندهم أن الشيطان مجلى إلهي، ينبغي تعظيمه، ومن عبده فما عَبَدَ غير الله، وليس الشيطان غير الرحمن حتى نعصيه، وقد قال سبحانه‏: ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏: ‏60‏: 62‏]‏، فنهاهم عن عبادة الشيطان، وأمرهم بعبادة الله سبحانه وحده، وعندهم عبادة الشيطان هي عبادته أيضا، فينبغي أن يعبد الشيطان وجميع الموجودات فإنها عينه‏.‏
وقال تعالى أيضا عن إمام الخلائق خليل الرحمن أنه لما
‏{‏رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ‏}‏إلى قوله‏: ‏‏{‏وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏76‏: 82‏]‏، وقال أيضا‏: ‏‏{‏قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏‏[‏الممتحنة‏: ‏4‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي‏}‏ الآية‏[‏الزخرف‏: ‏26، 27‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏75‏: 98‏]‏،
ص -261-   وقال تعالى‏: ‏‏{‏إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏‏{‏قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعلىنَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏: ‏32‏: 68‏]‏‏.‏
فهذا الخليل الذي جعله الله إمام الأئمة، الذين يهتدون بأمره، من الأنبياء والمرسلين بعده، وسائر المؤمنين قال‏:
‏‏{‏إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏78، 79‏]‏‏.‏
وعند الملاحدة‏: الذي أشركوه، هو عين الحق ليس غيره، فكيف يتبرأ من الله الذي وجه وجهه إليه‏؟‏ وأحد الأمرين لازم على أصلهم، إما أن يعبده في كل شيء من المظاهر بدون تقييد ولا اختصاص وهو حال المكمل عندهم فلا يتبرأ من شيء، وإما أن يعبده في بعض المظاهر، كفعل الناقصين عندهم‏.‏
وأما التبرؤ من بعض الموجودات فقد قال‏: إن قوم نوح لو تركوهم لتركوا من الحق بقدر ما تركوا من تلك الأوثان، والرسل قد تبرأت من الأوثان، فقد تركت الرسل من الحق شيئا كثيرًا، وتبرؤوا من الله الذي دعوا الخلق إليه، والمشركون على زعمهم أحسن حالا من المرسلين؛ لأن المشركين عبدوه في بعض المظاهر، ولم يتبرؤوا من سائرها، والرسل تبرؤوا منه في عامة المظاهر‏.‏
ثم قول إبراهيم‏:
‏{‏وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ‏}‏‏[‏الأنعام‏: ‏79‏]‏ باطل على أصلهم، فإنه لم يفطرها، إذ هي ليست غيره، فما أجدرهم بقوله‏: ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ‏}‏ الآية ‏[‏النساء‏: ‏51‏]‏‏.‏

 

ص -262-   ثم قول الخليل‏: ‏{‏وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الأنعام‏: ‏81‏]‏‏.‏ وهذه حجة الله التي آتاها إبراهيم على قومه بقوله‏: كيف أخاف ما عبدتموه من دون الله‏؟‏ وهي المخلوقات المعبودة من دونه، وعندهم ليست معبودة من دونه، ومن لم يخفها فلم يخف الله، فالرسل لم يخافوا الله‏.‏
وقول الخليل‏:
‏‏{‏أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عليكم سُلْطَانًا‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: ‏81‏]‏ لم يصح عندهم، فإنهم لم يشركوا بالله شيئا؛ إذ ليس ثم غيره حتى يشركوه به، بل المعبود الذي عبدوه هو الله، وأكثر ما فعلوه أنهم عبدوه في بعض المظاهر، وليس في هذا أنهم جعلوا غيره شريكا له في العبادة‏.‏
وقوله‏:
‏‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 82‏]‏، وورد في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال‏: ‏لما نزلت هذه الآية شق ذلك على أصحاب النبي صلىالله عليه وسلم وقالوا‏: أينا لم يظلم نفسه‏؟‏ فقال النبي صلىالله عليه وسلم‏: ‏"‏ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح‏: ‏‏{‏لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏‏"‏ ‏[‏لقمان‏: ‏13‏]‏‏.‏ فقد أخبر الله ورسوله أن الشرك ظلم عظيم، وأن الأمن هو لمن آمن بالله، ولم يخلط إيمانه بشرك، وعلى زعم هؤلاء الملاحدة، فإيمان الذين خلطوا إيمانهم بشرك هو الإيمان الكامل التام، وهو إيمان المحقق العارف عندهم؛ لأن من آمن بالله في جميع مظاهره وعبده في كل موجود، هو أكمل ممن لم يؤمن به حيث لم يظهر، ولم يعبده إلا من حيث لا يشهد ولا يعرف، وعندهم لا يتصور أن يوجد إلا في المخلوق، فمن لم يعبده في شيء

 

ص -263-   من المخلوقات أصلا، فما عبده في الحقيقة أصلا، وإذا أطلقوا أنه عبده فهو لفظ لا معنى له، أي إذا فسروه بالتخصيص فيكون بالتخصيص بمعنى أنه خصص بعض المظاهر بالعبادة، وهذا عندهم نقص لا من جهة ما أشركه وعبده، وإنما هو من جهة ما تركه، فليس عندهم في الشرك ظلم ولا نقص إلا من جهة قِلَّتِه، وإلا فإذا كان الشرك عاما كان أكمل وأفضل‏.‏
وكذلك أيضا قول الخليل لقومه‏: ‏
{‏إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: 4‏]‏ تبرأ عندهم من الحق الذي ظهر فيهم وفي آلهتهم، وكذلك كفره به ومعاداته لهم كفر بالحق عندهم ومعاداة له‏.‏
ثم قوله‏:
‏{‏حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏4‏]‏ كلام لا معنى له عندهم، فإنهم كانوا مؤمنين بالله وحده؛ إذ لا يتصور عندهم غيره، وإنما غايتهم أنهم عبدوه في بعض المظاهر، وتركوا بعضها من غير كفر به فيها‏.‏
وكذلك سائر ما قصه عن إبراهيم من معاداته لما عبده أولئك هو عندهم معاداة لله؛ لأنه ما عبد غير الله كما زعم الملحدون، محتجين بقوله‏:
‏{‏وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏، قالوا‏: وما قضى الله شيئا إلا وقع‏.‏
وهذا هو الإلحاد في آيات الله، وتحريف الكلم عن مواضعه، والكذب على الله، فإن ‏[‏قضى‏]‏ هنا ليست بمعنى القدر والتكوين بإجماع المسلمين، بل وبإجماع العقلاء، حتى يقال‏: ما قدر الله شيئا إلا وقع، وإنما هي بمعنى أمر، وما أمر الله به فقد يكون وقد لا يكون، فتدبر هذا التحريف‏.‏

ص -264-   وكذلك قوله ما حكم الله بشيء إلا وقع كلام مجمل، فإن الحكم يكون بمعنى الأمر الديني، وهو الأحكام الشرعية، كقوله‏: ‏‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏1‏]‏‏.‏ وقوله‏: ‏‏{‏وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمًا‏}‏‏[‏المائدة‏: ‏50‏]‏، وقوله‏: ‏{‏ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏10‏]‏، ويكون الحكم حكما بالحق والتكوين والفعل كقوله‏: ‏{‏فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي‏}‏ ‏[‏يوسف‏: ‏80‏]‏، وقوله‏: ‏{‏قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ‏}‏‏[‏الأنبياء‏: ‏112‏]‏‏.‏
ولهذا كان بعض السلف يقرؤون ‏[‏ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه‏]‏ ذكره ثعلب عن ابن عباس، وذكروا أنها كذلك في بعض المصاحف؛ ولهذا قال في سياق الكلام‏: ‏
{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا‏}‏ الآية ‏[‏الإسراء‏: ‏23‏]‏ وساق أمره، ووصاياه، إلى أن قال‏: ‏{‏ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏39‏]‏
فختم الكلام بمثل ما فتحه به، من أمره بالتوحيد، ونهيه عن الشرك، ليس هو إخبارا أنه ما عبد أحد إلا الله، وأن الله قدر ذلك وكونه، وكيف وقد قال‏: ‏
{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: ‏39‏]‏، وعندهم ليس في الوجود شيء يجعل إلها آخر، فأي شيء عبد فهو نفس الإله ليس آخر غيره‏.‏
ومثل معاداة إبراهيم والمؤمنين لله على زعمهم حيث عادى العابدين والمعبودين، وما عبد غير الله، وما عبد الله غير الله، فهو عين كل عابد وعين كل معبود، فكذلك قوله تعالى‏:
‏{‏لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أولياء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ‏}‏ ‏[‏الممتحنة‏: ‏1‏]‏‏.‏

 

ص -265-   وعلى زعمهم ما لله عدو أصلا، وأنه ما ثم غير، ولا سوى، بحيث يتصور أن يكون عدو نفسه أو عدو الذوات التي لا يظهر إلا بها‏.‏
السادس‏: أن عندهم أن دعوة العباد إلى الله مكر بهم، كما صرح به، حيث قال‏: إن الدعوة إلى الله مكر بالمدعو، فإنه ما عدم من البداية فيدعى إلى الغاية‏.‏
وقال أيضا صاحب الفصوص‏:
‏{‏وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ‏}‏ ‏[‏الحج‏: ‏34‏]‏ الذين خبت نار طبيعتهم فقالوا‏: إلها ولم يقولوا‏: طبيعة، ‏{‏وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا‏}‏ أي‏: حيروهم في تعداد الواحد بالوجوه والنسب، ‏{‏وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ‏}‏لأنفسهم، المصْطَفِينَ الَّذين أورثوا الكتاب، فهم أول الثلاثة، فقدمه على المقتصد والسابق، ‏{‏إِلَّا ضَلَالًا‏}‏ ‏[‏نوح‏: ‏24‏]‏ أي‏: إلا حيرة‏.‏ وفي المحمدي‏: زدني فيك تحيرًا‏.‏ ‏{‏كُلَّمَا أَضَاء لَهُم مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عليهمْ قَامُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏20‏]‏ له فالمحير له الدور، والحركة الدورية حول القطب، فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستطيل مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته، فله ‏[‏من‏]‏ و ‏[‏إلى‏]‏ وما بينهما، وصاحب الحركة الدورية لا بدء له، فيلزمه ‏[‏من‏]‏ ولا غاية فتحكم عليه ‏[‏إلى‏]‏ فله الوجود الأتم، وهو المؤتى جوامع الكلم‏.‏ اه‏.‏

ص -266-   وقال بعض شعرائهم‏:
 ما بال عيسك لا يقر قرارها    وإلامَ ضلك لا يني متنقلا‏؟‏
 فلسوف تعلم أن سيرك لم يكن     إلا إليك إذا بلغت المنزلا
فعندهم الإنسان هو غاية نفسه، وهو معبود نفسه، وليس وراءه شيء يعبده أو يقصده، أو يدعوه، أو يستجيب له؛ ولهذا كان قولهم حقيقة قول فرعون‏.‏
وكنت أقول لمن أخاطبه‏: إن قولهم هو حقيقة قول فرعون، حتى حدثني بعض من خاطبته في ذلك من الثقات العارفين‏: أن بعض كبرائهم لما دعا هذا المحدث إلى مذهبهم، وكشف له حقيقة سرهم، قال‏: فقلت له‏: هذا قول فرعون‏؟‏ قال‏: نعم، ونحن على قول فرعون، فقلت له‏: الحمد لله الذي اعترفوا بهذا، فإنه مع إقرار الخصم لا يحتاج إلى بينة‏.‏
وقد جعل صاحب الطريق المستطيل صاحب خيال، ومدح الحركة المستديرة الحائرة، والقرآن يأمر بالصراط المستقيم، ويمدحه ويثنى على أهله لا على المستدير، ففي أم الكتاب‏: ‏
{‏اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الفاتحة‏: ‏6‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 153‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏}‏ الآيتين ‏[‏النساء‏: 66‏]‏‏.‏
وقال تعالى في موسى وهارون‏:
‏{‏وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏: ‏117، 118‏]‏،

ص -267-   وقال تعالى‏: ‏{‏وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 126‏]‏، وقال عن إبليس‏: ‏{‏فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم‏}‏ الآية ‏[‏الأعراف‏: 16، 17‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عليهمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ ‏[‏سبأ‏: ‏20‏]‏‏.‏
وهؤلاء الملحدون من أكابر متبعيه، فإنه قعد لهم على صراط الله المستقيم، فصدهم عنه حتى كفروا بربهم، وآمنوا أن نفوسهم هي معبودهم وإلههم‏.‏
وقال تعالى في حق خاتم الرسل‏:
‏{‏وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ‏}‏ الآية ‏[‏الشورى‏: ‏52، 53‏]‏‏.‏
وأيضا فإن الله يقول‏: ‏
{‏وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ‏}‏ ‏[‏يونس‏: 30‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ علىنَا حِسَابَهُمْ‏}‏ ‏[‏الغاشية‏: ‏25، 26‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا‏}‏ الآية ‏[‏المائدة‏: ‏48‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏: 6‏]‏، وهؤلاء عندهم ما ثم إلا أنت، وأنت إلى الآن مردود إلى الله وما زلت مردودا إليه، وليس هو شيء غيرك، حتى ترد إليه أو ترجع إليه أو تكدح إليه أو تلاقيه، ولهذا حدثونا أن ابن الفارض لما احتضر أنشد بيتين‏:
 إن كان منزلتي في الحب عندكم    ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي‏
 أمنية ظفرت نفسي بها زمنا     واليوم أحسبها أضغاث أحلام‏

ص -268-   وذلك أنه كان يتوهم أنه هو الله، وأنه ما ثم مرد إليه ومرجع إليه غير ما كان هو عليه، فلما جاءته ملائكة الله تنزع روحه من جسمه، وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب، تبين له أن ما كان عليه أضغاث أحلام من الشيطان‏.‏
وكذلك حدثني بعض أصحابنا، عن بعض من أعرفه وله اتصال بهؤلاء، عن الفاجر التلمساني‏: أنه وقت الموت تغير واضطرب، قال‏: دخلت عليه وقت الموت فوجدته يتأوه، فقلت له‏: مم تتأوه‏؟‏ فقال‏: من خوف الفوت، فقلت‏: سبحان الله، ومثلك يخاف الفوت، وأنت تدخل الفقير إلى الخلوة فتوصله إلى الله في ثلاثة أيام ‏؟‏‏!‏ فقال ما معناه‏: زال ذلك كله وما وجدت لذلك حقيقة‏!‏
السابع‏: أن عندهم من يدعي الإلهية من البشر، كفرعون والدجال المنتظر، أو ادعيت فيه وهو من أولياء الله نبيا كالمسيح، أو غير نبي كعلى، أو ليس من أولياء الله كالحاكم بمصر وغيرهم، فإنه عند هؤلاء الملاحدة المنافقين يصحح هذه الدعوى‏.‏
وقد صرح صاحب الفصوص بتصحيح هذه الدعوى، كدعوى فرعون، وهم كثيرًا ما يعظمون فرعون، فإنه لم يتقدم لهم رأس في الكفر مثله، ولا يأتي متأخر لهم مثل الدجال الأعور الكذاب، وإذا نافقوا المؤمنين وأظهروا الإيمان قالوا‏: إنه مات مؤمنًا، وإنه لا يدخل النار، وقالوا‏: ليس في القرآن ما يدل على دخوله النار‏.‏

ص -269-   وأما في حقيقة أمرهم فما زال عندهم عارفًا بالله، بل هو الله، وليس عندهم نار فيها ألم أصلا، كما سنذكره إن شاء الله عنهم، ولكن يتفطن بهذا لكون البدع مظان النفاق، كما أن السنن شعائر الإيمان‏.‏
قال صاحب الفصوص في فص الحكمة التي في ‏[‏الكلمة الموسوية‏]‏ لما تكلم على قوله‏:
‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 23‏]‏ قال‏: وهنا سر كبير، فإنه أجاب بالفعل لمن سأل عن الحد الذاتي فجعل الحد الذاتي عين إضافته إلى ما ظهر به من صور العالم، أو ما ظهر فيه من صور العالم، فكأنه قال له في جواب قوله‏: ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ قال‏: الذي يظهر فيه صور العالمين، من علو وهو السماء، وسفل وهو الأرض ‏{‏إن كُنتُم مُّوقِنِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏24‏]‏، أو يظهر هو بها‏.‏
فلما قال فرعون لأصحابه‏: إنه لمجنون كما قلنا في معنى كونه مجنونًا أي لمستور عنه علم ما سألته عنه إذ لا يتصور أن يعلمه أصلا، زاد موسى في البيان ليعلم فرعون رتبته في العلم الإلهي، لعلمه بأن فرعون يعلم ذلك فقال‏:
‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 28‏]‏، فجاء بما يظهر ويستر، وهو الظاهر والباطن ‏{‏وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏28‏]‏ وهو قوله‏: ‏{‏وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عليمٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏: 101‏]‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: ‏28‏]‏ أي إن كنتم أصحاب تقييد فإن العقل للتقييد‏.‏
والجواب الأول جواب الموقنين، وهم أهل الكشف والوجود، فقال له‏:
‏{‏إِن كُنتُمْ موقنين‏}‏ أي‏: أهل كشف ووجود فقد أعلمتكم بما تيقنتموه في كشفكم ووجودكم‏.‏

ص -270-   فإن لم تكونوا من هذا الصنف فقد أجبتكم بالجواب الثاني إن كنتم أهل عقل وتقييد، وحصرتم الحق فيما تعطيه أدلة عقولكم، فظهر موسى بالوجهين ليعلم فرعون فضله وصدقه، وعلم موسى أن فرعون علم ذلك، أو يعلم ذلك لكونه سأل عن الماهية، فعلم أن سؤاله ليس على اصطلاح القدماء في السؤال؛ فلذلك أجاب، فلو علم منه غير ذلك لخطأه في السؤال‏.‏
فلما جعل موسى المسؤول عنه عين العالم، خاطبه فرعون بهذا اللسان، والقوم لا يشعرون فقال له‏:
‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 29‏]‏، والسين في السجن من حروف الزوائد، أي‏: لأسترنك، فإنك أجبت بما أيدتني به أن أقول مثل هذا القول، فإن قلت لي بلسان الإشارة، فقد جهلت يا فرعون بوعيدك إياي، والعين واحدة، فكيف فرقت‏؟‏ فيقول فرعون‏: إنما فرقت المراتب العين، ما تفرقت العين، ولا انقسمت في ذاتها، ومرتبتي الآن التحكم فيك يا موسى بالفعل، وأنا أنت بالعين، وأنا غيرك بالرتبة‏.‏
وساق الكلام إلى أن قال‏: ولما كان فرعون في منصب الحكم صاحب الوقت، وأنه الخليفة بالسيف، وأنه جار في العرف الناموسي؛ لذلك قال‏:
‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ ‏[‏النازعات‏: ‏24‏]‏‏: أي وإن كان الكل أربابا بنسبة ما، فأنا الأعلى منهم، بما أعطيته في الظاهر من التحكم فيكم‏.‏
ولما علمت السحرة صدقه فيما قال لهم، لم ينكروه، وأقروا له بذلك، وقالوا له‏:
‏{‏فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا‏}‏‏[‏طه‏: 72‏]‏ فالدولة لك،

 

ص -271-   فصح قوله ‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ وإن كان عين الحق، فالصورة لفرعون، فقطع الأيدي والأرجل وصلب بعين حق في صورة باطل؛ لنيل مراتب لا تنال إلا بذلك الفعل؛ فإن الأسباب لا سبيل إلى تعطيلها؛ لأن الأعيان الثابتة اقتضتها، فلا تظهر في الوجود إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت؛ إذ لا تبديل لكلمات الله، وليست كلمة الله سوى أعيان الموجودات‏.‏

ص -272-   فصل‏:
ومن أعظم الأصول التي يعتمدها هؤلاء الاتحادية، الملاحدة، المدعون للتحقيق والعرفان‏: ما يأثرونه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏"‏كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان‏"‏‏.‏ وهذه الزيادة وهو قوله‏: ‏"‏وهو الآن على ما عليه كان‏"‏ كذب مفترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم، اتفق أهل العلم بالحديث على أنه موضوع مختلق، وليس هو في شيء من دواوين الحديث، لا كبارها ولا صغارها، ولا رواه أحد من أهل العلم بإسناد، لا صحيح ولا ضعيف، ولا بإسناد مجهول، وإنما تكلم بهذه الكلمة بعض متأخرى متكلمة الجهمية، فتلقاها منهم هؤلاء، الذين وصلوا إلى آخر التجهم وهو التعطيل والإلحاد‏.‏
ولكن أولئك قد يقولون‏: كان الله ولا مكان ولا زمان، وهو الآن على ما عليه كان، فقال هؤلاء‏: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان، وقد اعترف بأن هذا ليس من كلام النبي صلى الله عليه وسلم أعلم هؤلاء بالإسلام ابن عربي فقال في كتاب
‏"‏ما لابد للمريد منه‏"‏‏: وكذلك جاء في السنة‏: ‏"‏كان الله ولا شيء معه‏"‏ قال‏: وزاد العلماء‏: ‏"‏وهو الآن على ما عليه كان‏"‏، فلم يرجع إليه

 

ص -273-   من خلقه العالم وصف لم يكن عليه، ولا عالم موجود، فاعتقد فيه من التنزيه مع وجود العالم ما تعتقده فيه ولا عالم ولا شيء سواه‏.‏ وهذا الذي قاله هو قول كثير من متكلمي أهل القبلة‏.‏
ولو ثبت على هذا لكان قوله من جنس قول غيره، لكنه متناقض، ولهذا كان مقدم الاتحادية الفاجر التلمساني يرد عليه في مواضع يقرب فيها إلى المسلمين، كما يرد عليه المسلمون المواضع التي خرج فيها إلى الاتحاد‏.‏
وإنما الحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ما أخرجه البخاري عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:
‏"‏كان الله ولم يكن شيء قبله، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض‏"‏
وهذه الزيادة الإلحادية، وهو قولهم‏: وهو الآن على ما عليه كان، قصد بها المتكلمة المتجهمة نفى الصفات التي وصف بها نفسه، من استوائه على العرش، ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك فقالوا‏: كان في الأزل ليس مستويا على العرش، وهو الآن على ما عليه كان، فلا يكون على العرش لما يقتضي ذلك من التحول والتغير‏.‏
ويجيبهم أهل السنة والإثبات بجوابين معروفين‏:
أحدهما‏: أن المتجدد نسبة وإضافة بينه وبين العرش بمنزلة المعية،

 

ص -274-   ويسميها ابن عقيل الأحوال، وتجدد النسب والإضافات متفق عليه بين جميع أهل الأرض، من المسلمين وغيرهم؛ إذ لا يقتضي ذلك تغيرًا، ولا استحالة‏.‏
والثاني‏: أن ذلك وإن اقتضى تحولًا من حال إلى حال، ومن شأن إلى شأن، فهو مثل مجيئه، وإتيانه، ونزوله، وتكليمه لموسى، وإتيانه يوم القيامه في صورة، ونحو ذلك مما دلت عليه النصوص، وقال به أكثر أهل السنة والحديث، وكثير من أهل الكلام، وهو لازم لسائر الفرق‏.‏
وقد ذكرنا نزاع الناس في ذلك، في قاعدة الفرق بين الصفات، والمخلوقات، والصفات الفعلىة‏.‏
وأما هؤلاء الجهمية الاتحادية فقالوا‏: وهو الآن على ما عليه كان، ليس معه غيره، كما كان في الأزل ولا شيء معه، قالوا‏: إذ الكائنات ليست غيره ولا سواه، فليس إلا هو، فليس معه شيء آخر، لا أزلا ولا أبدًا، بل هو عين الموجودات، ونفس الكائنات، وجعلوا المخلوقات المصنوعات هي نفس الخالق البارئ المصور‏.‏
وهم دائما يهذون بهذه الكلمة‏: ‏"‏وهو الآن على ما عليه كان‏"‏ وهي أجل عندهم من‏:
‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ ‏[‏سورة الإخلاص‏]‏، ومن آية الكرسي؛ لما فيها من الدلالة على الاتحاد الذي هو إلحادهم، وهم يعتقدون أنها ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأنها من كلامه، ومن أسرار معرفته، وقد بينا أنها كذب مختلق على النبي صلى الله عليه وسلم لم يقلها، ولم يروها أحد من أهل العلم، ولا هي في شيء من دواوين

 

ص -275-   الحديث، بل اتفق العارفون بالحديث على أنها موضوعة، ولا تنقل هذه الزيادة عن إمام مشهور في الأمة بالإمامة، وإنما مخرجها ممن يعرف بنوع من التجهم، وتعطيل بعض الصفات، ولفظ الحديث المعروف عند علماء الحديث، الذي أخرجه أصحاب الصحيح‏: ‏"‏كان الله ولا شيء معه، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء‏"‏‏.‏ وهذا إنما ينفى وجود المخلوقات من السموات والأرض، وما فيهما من الملائكة، والإنس والجن، لا ينفي وجود العرش‏.‏
ولهذا ذهب كثير من السلف والخلف إلى أن العرش متقدم على القلم واللوح، مستدلين بهذا الحديث، وحملوا قوله‏: ‏"‏أول ما خلق الله القلم فقال له‏: اكتب‏.‏ فقال‏: وما أكتب‏؟‏ قال‏: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏"‏، على هذا الخلق المذكور في قوله‏:
‏{‏وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء‏}‏‏[‏هود‏: ‏7‏]‏‏.‏
وهذا نظير حديث أبي رزين العقيلي، المشهور في كتب المسانيد والسنن، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه‏؟‏ فقال‏: ‏"‏كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء‏"‏، فالخلق المذكور في هذا الحديث لم يدخل فيه العماء، وذكر بعضهم أن هذا هو السحاب المذكور في قوله‏:
‏{‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ اللّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏210‏]‏، وفي ذلك آثار معروفة‏.‏

ص -276-   والدليل على أن هذا الكلام وهو قولهم‏: وهو الآن على ما عليه كان كلام باطل مخالف للكتاب والسنة والإجماع والاعتبار وجوه‏:
أحدها‏: أن الله قد أخبر بأنه مع عباده في غير موضع من الكتاب، عموما وخصوصا، مثل قوله‏:
‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏الحديد‏: ‏4‏]‏، وقوله‏: ‏{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏أَيْنَ مَا كَانُوا‏}‏‏[‏المجادلة‏: ‏7‏]‏، وقوله‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏: ‏128‏]‏، وقال‏: ‏{‏إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: ‏153‏]‏، في موضعين‏.‏ وقوله‏: ‏{‏إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى‏}‏ ‏[‏طه‏: ‏46‏]‏، ‏{‏لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا‏}‏ ‏[‏التوبة‏: 40‏]‏، ‏{‏وَقَالَ اللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏: ‏12‏]‏، ‏{‏إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 62‏]‏‏.‏
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يقول‏:
‏"‏اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل، اللهم أصحبنا في سفرنا، واخلفنا في أهلنا‏"‏‏.‏ فلو كان الخلق عمومًا وخصوصا ليسوا غيره، ولا هم معه، بل ما معه شيء آخر، امتنع أن يكون هو مع نفسه وذاته فإن المعية توجب شيئين‏: كون أحدهما مع الآخر، فلما أخبر الله أنه مع هؤلاء علم بطلان قولهم‏: ‏"‏هو الآن على ما عليه كان‏"‏ لا شيء معه، بل هو عين المخلوقات، وأيضا فإن المعية لا تكون إلا من الطرفين، فإن معناها المقارنة والمصاحبة‏.‏ فإذا كان أحد الشيئين مع الآخر، امتنع ألا يكون الآخر معه، فمن الممتنع أن يكون الله مع خلقه، ولا يكون لهم وجود معه، ولا حقيقة أصلا، بل هم هو‏.‏

ص -277-   الوجه الثاني‏: أن الله قال في كتابه‏: ‏{‏وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏: 39‏]‏، وقال تعالى‏: ‏{‏فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏: 213‏]‏، وقال‏: ‏{‏وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏}‏ ‏[‏القصص‏: 88‏]‏
فنهاه أن يجعل أو يدعو معه إلها آخر، ولم ينهه أن يثبت معه مخلوقا، أو يقول‏: إن معه عبدًا مملوكا أو مربوبا فقيرا، أو معه شيئا موجودا خلقه، كما قال‏: ‏
{‏لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: 88‏]‏ ولم يقل‏: لا موجود إلا هو، أو لا هو إلا هو، أو لا شيء معه إلا هو، بمعنى أنه نفس الموجودات وعينها‏.‏
وهذا كما قال‏:
‏{‏وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏: 163‏]‏ فأثبت وحدانيته في الألوهية، ولم يقل‏: إن الموجودات واحد، فهذا التوحيد الذي في كتاب الله هو توحيد الألوهية، وهو ألا تجعل معه ولا تدعو معه إلها غيره، فأين هذا من أن يجعل نفس الوجود هو إياه‏؟‏
وأيضًا، فنهيه أن يجعل معه أو يدعو معه إلها آخر دليل على أن ذلك ممكن، كما فعله المشركون الذين دعوا مع الله آلهة أخرى، فلو كانت تلك الآلهة هي إياه ولا شيء معه أصلا امتنع أن يدعى معه آلهة أخرى‏.‏
فهذه النصوص تدل على أن معه أشياء ليست بآلهة، ولا يجوز أن تجعل آلهة، ولا تدعى آلهة، وأيضا‏: فعند الملحدين يجوز أن يعبد كل شيء، ويدعى كل شيء، إذ لا يتصور أن يعبد غيره، فإنه هو الأشياء‏.‏

ص -278-   فيجوز للإنسان حينئذ أن يدعو كل شيء من الآلهة المعبودة من دون الله، وهو عند الملاحدة ما دعا معه إلها آخر ‏!‏ فجعل نفس ما حرمه الله وجعله شركا جعله توحيدًا، والشرك عنده لا يتصور بحال‏.‏
الوجه الثالث‏: أن الله لما كان ولا شيء معه، لم يكن معه سماء، ولا أرض، ولا شمس ولا قمر، ولا جن ولا إنس، ولا دواب ولا شجر، ولا جنة ولا نار، ولا جبال ولا بحار، فإن كان الآن على ما عليه كان، فيجب ألا يكون معه شيء من هذه الأعيان، وهذا مكابرة للعيان، وكفر بالقرآن والإيمان‏.‏
الوجه الرابع‏: أن الله كان ولا شيء معه، ثم كتب في الذكر كل شيء، كما جاء في الحديث الصحيح، فإن كان لا شيء معه فيما بعد، فما الفرق بين حال الكتابة وقبلها، وهو عين الكتابة واللوح عند الفراعنة الملاحدة‏.‏

ص -279-   فصل‏:
وزعمت طائفة من هؤلاء الاتحادية الذين ألحدوا في أسماء الله وآياته أن فرعون كان مؤمنا، وأنه لا يدخل النار، وزعموا أنه ليس في القرآن ما يدل على عذابه، بل فيه ما ينفيه، كقوله‏:
‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏: ‏46‏]‏، قالوا‏: فإنما أدخل آله دونه‏.‏ وقوله‏: ‏{‏يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏98‏]‏، قالوا‏: إنما أوردهم ولم يدخلها، قالوا‏: ولأنه قد آمن أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، ووضع جبريل الطين في فمه لا يرد إيمان قلبه‏.‏
وهذا القول كفر معلوم فساده بالاضطرار من دين الإسلام، لم يسبق ابن عربي إليه فيما أعلم أحد من أهل القبلة، بل ولا من اليهود، ولا من النصارى، بل جميع أهل الملل مطبقون على كفر فرعون‏.‏
فهذا عند الخاصة والعامة أبين من أن يستدل عليه بدليل، فإنه لم يكفر أحد بالله، ويدعى لنفسه الربوبية والإلهية مثل فرعون‏.‏  ولهذا ثنى الله قصته في القرآن في مواضع، فإن القصص إنما هي أمثال

 

ص -280-   مضروبة للدلالة على الإيمان، وليس في الكفار أعظم من كفره، والقرآن قد دل على كفره وعذابه في الآخرة في مواضع‏:
أحدها‏: قوله تعالى في القصص‏: ‏
{‏ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏ وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُم مِّنَ الْمَقْبُوحِينَ‏}‏ ‏[‏القصص‏: ‏32‏: 42‏]‏‏.‏
فأخبر سبحانه أنه أرسله إلى فرعون وقومه، وأخبر أنهم كانوا قومًا فاسقين، وأخبر أنهم‏: قالوا‏: ‏
{‏مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّفْتَرًى‏}‏ ‏[‏القصص‏: 36‏]‏، وأخبر أن فرعون قال‏: ‏{‏مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي‏}‏ ‏[‏القصص‏: 38‏]‏، وأنه أمر باتخاذ الصرح ليطلع إلى إله موسى، وأنه يظنه كاذبا، وأخبر أنه استكبر فرعون وجنوده، وظنوا أنهم لا يرجعون إلى الله، وأنه أخذ فرعون وجنوده فنبذهم في اليم، فانظر كيف كان عاقبة الظالمين، وأنه جعلهم أئمة يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون، وأنه أتبعهم في الدنيا لعنة ويوم القيامة هم من المقبوحين‏.‏
فهذا نص في أن فرعون من الفاسقين المكذبين لموسى، الظالمين الداعين إلى النار، الملعونين في الدنيا بعد غرقهم، المقبوحين في الدار الآخرة‏.‏ وهذا نص في أن فرعون بعد غرقه ملعون، وهو في الآخرة مقبوح غير منصور، وهذا إخبارعن غاية العذاب، وهو موافق للموضع الثاني في سورة المؤمن وهو قوله‏: ‏
{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏: ‏45، 46‏]‏،

 

ص -281-   وهذا إخبار عن فرعون وقومه، أنه حاق بهم سوء العذاب في البرزخ، وأنهم في القيامة يدخلون أشد العذاب، وهذه الآية إحدى ما استدل به العلماء على عذاب البرزخ‏.‏
وإنما دخلت الشبهة على هؤلاء الجهال لما سمعوا آل فرعون، فظنوا أن فرعون خارج منهم، وهذا تحريف للكلم عن مواضعه، بل فرعون داخل في آل فرعون بلا نزاع بين أهل العلم بالقرآن واللغة، يتبين ذلك بوجوه‏:
أحدها‏: أن لفظ آل فلان في الكتاب والسنة يدخل فيها ذلك الشخص، مثل قوله في الملائكة الذين ضافوا إبراهيم‏:
‏{‏إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ امْرَأَتَهُ‏}‏ ثم قال‏: ‏{‏فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قَالَ‏}‏ يعني لوطا‏: ‏{‏إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏: ‏58، 62‏]‏، وكذلك قوله‏: ‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا عليهمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏: 34‏]‏ ثم قال بعد ذلك‏: ‏{‏وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُّقْتَدِرٍ‏}‏ ‏[‏القمر‏: 41، 42‏]‏‏.‏
ومعلوم أن لوطا داخل في آل لوط في هذه المواضع، وكذلك فرعون داخل في آل فرعون المكذبين المأخوذين، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم‏:
"‏قولوا‏: اللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صلىت على آل إبراهيم‏"‏،

 

ص -282-   وكذلك قوله‏: ‏"‏كما باركت على آل إبراهيم فإبراهيم داخل في ذلك، وكذلك قوله للحسن‏: ‏"‏إن الصدقة لا تحل لآل محمد‏"‏‏.‏
وفي الصحيح عن عبد الله بن أبي أوفى قال‏: كان القوم إذا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بصدقة يصلي عليهم، فأتى أبي بصدقة فقال‏:
‏"‏اللهم صل على آل أبي أوفى‏"‏، وأبو أوفى هو صاحب الصدقة‏.‏
ونظير هذا الاسم أهل البيت، فإن الرجل يدخل في أهل بيته، كقول الملائكة،
‏{‏رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عليكم أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏73‏]‏، وقول النبي صلى الله عليه وسلم‏: ‏"‏سلمان منا أهل البيت‏"‏، وقوله تعالى‏: ‏{‏إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏: 33‏]‏، وذلك لأن آل الرجل من يؤول إليه، ونفسه ممن يؤول إليه، وأهل بيته هم من يأهله، وهو ممن يأهل أهل بيته‏.‏
فقد تبين أن الآية، التي ظنوا أنها حجة لهم، هي حجة عليهم، في تعذيب فرعون مع سائر آل فرعون في البرزخ، وفي يوم القيامة، ويبين ذلك‏: أن الخطاب في القصة كلها إخبار عن فرعون وقومه، قال تعالى‏:
‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعلى أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ النَّارُ يُعْرَضُونَ عليها غُدُوًّا وَعَشِيًّا‏}‏

 

ص -283-   إلى قوله‏: ‏{‏قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ‏}‏ ‏[‏غافر‏: 32‏: 48‏]‏‏.‏
فأخبر عقب قوله‏:
‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ عن محاجتهم في النار، وقول الضعفاء للذين استكبروا، وقول المستكبرين للضعفاء‏: ‏{‏إِنَّا كُلٌّ فِيهَا‏}‏ ومعلوم أن فرعون هو رأس المستكبرين، وهو الذي استخف قومه فأطاعوه، ولم يستكبر أحد استكبار فرعون، فهو أحق بهذا النعت والحكم من جميع قومه‏.‏
الموضع الثاني وهو حجة عليهم لا لهم قوله تعالى‏: ‏
{‏فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏97‏: 99‏]‏، فأخبر أنه يقدم قومه ولم يقل‏: يسوقهم، وأنه أوردهم النار‏.‏ ومعلوم أن المتقدم إذا أورد المتأخرىن النار، كان هو أول من يردها، وإلا لم يكن قادما، بل كان سائقا، يوضح ذلك أنه قال‏: ‏{‏وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ ‏[‏هود‏: ‏99‏]‏، فعلم أنه وهم يردون النار، وأنهم جميعا ملعونون في الدنيا والآخرة‏.‏
وما أخلق المحاج عن فرعون أن يكون بهذه المثابة فإن المرء مع من أحب
‏{‏وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أولىاء بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏: ‏73‏]‏، وأيضا‏: فقد قال الله تعالى‏: ‏{‏فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ‏}‏ ‏[‏يونس‏: 98‏]‏، يقول‏: هلا آمن قوم فنفعهم إيمانهم إلا قوم يونس ‏؟‏

ص -284-   وقال تعالى‏: ‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ‏}‏ إلى قوله‏: ‏{‏سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏غافر‏: 82‏: 85‏]‏، فأخبر عن الأمم المكذبين للرسل، أنهم آمنوا عند رؤية البأس، وأنه لم يك ينفعهم إيمانهم حينئذ، وأن هذه سنة الله الخالية في عباده‏.‏
وهذا مطابق لما ذكره الله في قوله لفرعون‏:
‏{‏آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏: 91‏]‏، فإن هذا الخطاب هو استفهام إنكار أي‏: الآن تؤمن وقد عصيت قبل‏؟‏ فأنكر أن يكون هذا الإيمان نافعًا أو مقبولا فمن قال‏: إنه نافع مقبول فقد خالف نص القرآن، وخالف سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏
يبين ذلك أنه لو كان إيمانه حينئذ مقبولا، لدفع عنه العذاب كما دفع عن قوم يونس، فإنهم لما قبل إيمانهم متعوا إلى حين، فإن الإغراق هو عذاب على كفره، فإذا لم يكن كافرًا لم يستحق عذابًا‏.‏
وقوله بعد هذا‏:
‏{‏فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً‏}‏ ‏[‏يونس‏: ‏92‏]‏ يوجب أن يعتبر من خلفه، ولو كان إنما مات مؤمنا لم يكن المؤمن مما يعتبر بإهلاكه وإغراقه، وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبره ابن مسعود بقتل أبي جهل قال‏: ‏"‏هذا فرعون هذه الأمة‏"‏، فضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل في رأس الكفار المكذبين له برأس الكفار المكذبين لموسى‏.‏

ص -285-    فهذا يبين أنه هو الغاية في الكفر، فكيف يكون قد مات مؤمنا‏؟‏ ومعلوم أن من مات مؤمنا‏: لا يجوز أن يوسم بالكفر ولا يوصف؛ لأن الإسلام يهدم ما كان قبله، وفي مسند أحمد وإسحاق وصحيح أبي حاتم، عن عوف بن مالك، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم في تارك الصلاة‏: ‏"‏يأتي مع قارون، وفرعون وهامان،