ابن تيمية : علو الله على سائر مخلوقاته


ص -136-   وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه أيضًا ـ عن علو اللّه على سائر مخلوقاته‏.‏
فأجاب‏:‏
أما علو اللّه ـ تعالى ـ على سائر مخلوقاته، وأنه كامل الأسماء الحسنى والصفات العلى، فالذي يدل عليه منها الكتاب‏:‏ قوله تعالى‏:‏
‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ}‏ ‏[‏فاطر‏:‏10‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏55‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا}‏ ‏[‏الملك‏:‏16، 17‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏النساء‏:‏158‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏المعارج‏:‏ 4‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 5‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 50‏]‏‏.‏
وقوله‏:‏
‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}‏ في ستة مواضع؛ وقوله‏:‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وقوله إخبارًا عن فرعون‏:‏ ‏{‏وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى}‏ ‏[‏غافر‏:‏36 ،37‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}‏ ‏[‏فصلت‏:‏42‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏114‏]‏، وأمثال ذلك‏.‏


ص -137-   والذي يدل عليه من السنة‏:‏ قصة معراج الرسول إلى ربه، ونزول الملائكة من عند اللّه وصعودها إليه، وقوله في الملائكة الذين يتعاقبون في الليل والنهار‏:‏ ‏(‏فيعرج الذين باتوا فيكم إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم بهم‏)‏‏.‏ وفي حديث الخوارج‏:‏ ‏(‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء‏؟‏‏)‏، وفي حديث الرقية‏:‏ ‏(‏ربنا اللّه الذي في السماء، تقدس اسمك‏)‏، وفي حديث الأوعال‏:‏ ‏(‏والعرش فوق ذلك، واللّه فوق عرشه، وهو يعلم ما أنتم عليه‏)‏، وفي حديث قبض الروح‏:‏ ‏(‏حتى يعرج بها إلى السماء التي فيها اللّه‏)‏‏.‏
وفي سنن أبي داود‏:‏ عن جبير بن مطعم قال‏:‏ أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعرابيّ فقال‏:‏ يا رسول اللّه، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وهلك المال، فادع اللّه لنا، فإنا نستشفع بك على اللّه، ونستشفع باللّه عليك، فسبح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه وقال‏
:‏ ‏(‏ويحك‏!‏ أتدري ما اللّه‏؟‏ إن اللّه لا يُستشفع به على أحد من خلقه، شأن اللّه أعظم من ذلك، إن اللّه على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا‏)‏ وقال بأصابعه مثل القبة‏.‏
وفي الصحيح عن جابر بن عبد اللّه؛ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لما خطب خطبة عظيمة يوم عرفات في أعظم جمع حضره رسول اللّه صلى الله عليه وسلم جعل يقول‏:‏
‏(‏ألا هل بلغت‏؟‏‏)‏ فيقولون‏:‏ نعم‏.‏ فيرفع إصبعه إلى السماء

 

ص -138-   وينكبها إليهم ويقول‏:‏ ‏(‏اللّهم اشهد‏)‏ غير مرة‏.‏ وحديث الجارية لما سألها‏:‏ ‏(‏أين اللّه‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ في السماء‏.‏ فأمر بعتقها ‏)‏، وعلل ذلك بإيمانها‏.‏ وأمثاله كثيرة‏.‏
وأما الذي يدل عليه من الإجماع‏:‏ ففي الصحيح عن أنس بن مالك ـ رضي اللّه عنه ـ قال‏:‏ كانت زينب تفتخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، تقول‏:‏ زوجكن أهاليكن وزوجني اللّه من فوق سبع سمواته‏.‏
وروى عبد اللّه بن أحمد وغيره بأسانيد صحاح عن ابن المبارك، أنه قيل له‏:‏ بم نعرف ربنا‏؟‏ قال‏:‏ بأنه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، ولا نقول كما قالت الجهمية‏:‏ إنه هاهنا في الأرض‏.‏
وبإسناد صحيح عن سليمان بن حرب ـ الإمام ـ سمعت حماد بن زيد ـ وذكر الجهمية ـ فقال‏:‏ إنما يحاولون أن يقولوا‏:‏ ليس في السماء شيء‏.‏
وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن عامر الضبعي ـ إمام أهل البصرة علمًا ودينًا ـ أنه ذكر عنده الجهمية فقال‏:‏ هم أشرُّ قولًا من اليهود والنصارى، وقد اجتمع أهل الأديان مع المسلمين على أن اللّه ـ تعالى ـ على العرش، وقالوا هم‏:‏ ليس على العرش شيء‏.‏
وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة ـ إمام الأئمة ـ من لم يقل‏:‏ إن اللّه فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه، وجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، ثم ألقى على مزبلة، لئلا يتأذى به أهل القبلة ولا أهل الذمة‏.‏

ص -139-   وروى الإمام أحمد قال‏:‏ إن شريح بن النعمان قال‏:‏ سمعت عبد اللّه بن نافع الصائغ قال‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ اللّه في السماء، وعلمه في كل مكان، لا يخلو من علمه مكان‏.‏
وحكى الأوزاعي ـ أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل البصرة، والثوري إمام أهل العراق ـ حكى شهرة القول في زمن التابعين بالإيمان بأن اللّه ـ تعالى ـ فوق العرش وبصفاته السمعية، وإنما قاله بعد ظهور جَهْم، المنكر لكون اللّه فوق عرشه النافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف خلافه‏.‏
وروى الخلال بأسانيد ـ كلهم أئمة ـ عن سفيان بن عيينة قال‏:‏ سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله تعالى‏:‏ ‏
{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏‏:‏ كيف استوى‏؟‏ قال‏:‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن اللّه الرسالة، ومن الرسول البلاغ، وعلينا التصديق‏.‏
وهذا مروي عن مالك بن أنس ـ تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن ـ أو نحوه‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ خلافة أبي بكر حق، قضاه اللّه ـ تعالى ـ في سمائه، وجمع عليه قلوب عباده‏.‏
ولو يجمع ما قاله الشافعي في هذا الباب لكان فيه كفاية، ومن أصحاب الشافعي عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي، له كتاب‏:‏ ‏[‏الرد على الجهمية‏]‏ وقرر فيه

 

ص -140-   ‏[‏مسألة العلو‏]‏ وأن اللّه ـ تعالى ـ فوق عرشه‏.‏ والأئمة في الحديث والفقه والسنة والتصوف المائلون إلى الشافعي ما من أحد منهم إلا له كلام فيما يتعلق بهذا الباب ما هو معروف، يطول ذكره‏.‏
وفي كتاب ‏[‏الفقه الأكبر‏]‏ المشهور عن أبي حنيفة، يروونه بأسانيد عن أبي مطيع الحكم بن عبد اللّه، قال‏:‏ سألت أبا حنيفة عن ‏[‏الفقه الأكبر‏]‏ فقال‏:‏ لا تكفرن أحدًا بذنب‏.‏ إلى أن قال ـ عمن قال‏:‏ لا أعرف ربي في السماء أم في الأرض ـ فقد كفر؛ لأن اللّه يقول‏:‏
‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، وعرشه فوق سبع سموات‏.‏ قلت‏:‏ فإن قال‏:‏ إنه على العرش، ولكن لا أدري، العرش في السماء أم في الأرض‏.‏ قال‏:‏ هو كافر ـ وإنه يدعى من أعلى لا من أسفل‏.‏
وسئل عليُّ بن المديني عن قوله‏:‏ ‏
{‏مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ}‏‏.‏ ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏ الآية قال‏:‏ اقرأ ما قبله‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}‏ الآية ‏[‏المجادلة‏:‏7‏]‏‏.‏
وروى عن أبي عيسى الترمذي قال‏:‏ هو على العرش كما وصف في كتابه، وعلمه وقدرته وسلطانه في كل مكان‏.‏
وأبو يوسف لما بلغه عن المريسي أنه ينكر الصفات الخبرية، وأن اللّه فوق عرشه، أراد ضربه فهرب، فضرب رفيقه ضربًا بشعًا‏.‏ وعن أصحاب أبي حنيفة في هذا الباب ما لا يحصى‏.‏

ص -141-   ونقل ـ أيضًا ـ عن مالك‏:‏ أنه نص على استتابة الدعاة إلى ‏[‏مذهب جهم‏]‏، ونهى عن الصلاة خلفهم‏.‏
ومن أصحابه محمد بن عبد اللّه بن أبي زمنين ـ الإمام المشهور ـ قال‏:‏ في الكتاب الذي صنفه في ‏[‏أصول السنة‏]‏‏:‏
باب الإيمان بالعرش
قال‏:‏ ومن قول أهل السنة‏:‏ أن اللّه خلق العرش وخصه بالعلو والارتفاع فوق جميع ما خلق، ثم استوى عليه كيف شاء، كما أخبر عن نفسه في قوله‏:‏
‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، إلى أن قال‏:‏ فسبحان من بَعُدَ فلا يُرى، وقَرُبَ بعلمه وقدرته‏.‏
وأما أحمد بن حنبل وأصحابه فهم أشهر في هذا الباب، وبه ائتم أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري المتكلم ـ صاحب الطريقة المنسوبة إليه ـ قال‏:‏
فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة
فإن قال قائل‏:‏ قد أنكرتم قول المعتزلة، والقدرية، والجهمية، والحرورية والرافضة، والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي تقولون، وديانتكم التي بها تدينون‏.‏ قيل له‏:‏ قولنا الذي نقول به وديانتنا التي بها ندين اللّه‏:‏ التمسك بكتاب ربنا، وسنة نبينا محمد، وما روى عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث‏.‏ ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول أبو عبد اللّه أحمد بن حنبل ـ نضر اللّه وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته ـ قائلون، ولما خالف قوله مخالفون؛ لأنه الإمام

 

ص -142-    الفاضل والرئيس الكامل الذي أبان اللّه به الحق عند ظهور الضلال، وأوضح به المنهاج، وقَمَع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين، فرحمة اللّه عليه من إمام مُقَدَّم، وجليل معظم، وكبير مفهم‏.‏
وجملة قولنا‏:‏ بأنا نقر باللّه، وملائكته، وكتبه، ورسله، وبما جاؤوا به من عند اللّه وبما رواه الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، لا نرد من ذلك شيئًا، وأن اللّه واحد لا إله إلا هو، فرد صمد، لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، وأن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق، وأن الجنة حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن اللّه يبعث من في القبور، وأن اللّه مستو على عرشه كما قال‏:‏ ‏
{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏، ونعود فيما اختلفنا فيه إلى كتاب ربنا وسنة نبينا وإجماع المسلمين‏.‏ إلى أن قال‏:‏
باب ذكر الاستواء على العرش إلى أن قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فما تقولون في الاستواء‏؟‏ قيل له‏:‏ إن اللّه مستو على عرشه كما قال‏:‏ ‏
{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏‏.‏

ص -143-   فصـــل
وقد قال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية‏:‏ إن معنى قوله‏:‏ ‏
{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏‏:‏ أنه استولى وملك وقهر، وأنه في كل مكان‏.‏ وجحدوا أن يكون على عرشه كما قال أهل الحق، وذهبوا بالاستواء إلى القدرة، فلو كان هذا كما ذكروا، كان لا فرق بين العرش والأرض السابعة؛ لأن اللّه قادر على كل شيء‏.‏
إلى أن قال ـ وأكثر في هذا ـ‏:‏ وقد اتفق الأئمة جميعهم من المشرق والمغرب على الإيمان بالقرآن، والأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صفة الرب ـ عز وجل ـ من غير تفسير ولا وصف ولا تشبيه‏.‏ فمن فسر اليوم شيئًا من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وفارق الجماعة؛ فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا، ولكن أقروا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول جهم فقد فارق الجماعة؛ فإنه وصفه بصفة لا شيء‏.‏

ص -144-   فصـــل
والمبطل لتأويل من تأول استوى بمعنى‏:‏ استولى، وجوه‏:‏
أحدها‏:‏ أن هذا التفسير لم يفسره أحد من السلف من سائر المسلمين من الصحابة والتابعين، فإنه لم يفسره أحد في الكتب الصحيحة عنهم، بل أول من قال ذلك بعض الجهمية والمعتزلة؛ كما ذكره أبو الحسن الأشعري في كتاب ‏[‏المقالات‏]‏ وكتاب ‏[‏الإبانة‏]‏‏.‏
الثاني‏:‏ أن معنى هذه الكلمة مشهور؛ ولهذا لما سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك ابن أنس عن قوله‏:‏
‏{‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏5‏]‏ قالا‏:‏ الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة‏.‏ ولا يريد أن‏:‏ الاستواء معلوم في اللغة دون الآية ـ لأن السؤال عن الاستواء في الآية كما يستوى الناس‏.‏
الثالث‏:‏ أنه إذا كان معلومًا في اللغة التي نزل بها القرآن كان معلومًا في القرآن‏.‏

ص -145-   الرابع‏:‏ أنه لو لم يكن معنى الاستواء في الآية معلومًا لم يحتج أن يقول‏:‏ الكيف مجهول؛ لأن نفي العلم بالكيف لا ينفي إلا ما قد علم أصله، كما نقول‏:‏ إنا نقر باللّه، ونؤمن به، ولا نعلم كيف هو‏.‏
الخامس‏:‏ الاستيلاء سواء كان بمعنى القدرة أو القهر أو نحو ذلك، هو عام في المخلوقات كالربوبية، والعرش وإن كان أعظم المخلوقات ونسبة الربوبية إليه لا تنفي نسبتها إلى غيره، كما في قوله‏:‏ ‏
{‏قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏86‏]‏، وكما في دعاء الكرب؛ فلو كان استوى بمعنى استولى ـ كما هو عام في الموجودات كلها ـ لجاز مع إضافته إلى العرش أن يقال‏:‏ استوى على السماء، وعلى الهواء، والبحار، والأرض، وعليها ودونها ونحوها؛إذ هو مستو على العرش‏.‏ فلما اتفق المسلمون على أنه يقال‏:‏ استوى على العرش ولا يقال‏:‏ استوى على هذه الأشياء، مع أنه يقال‏:‏ استولى على العرش والأشياء ـ علم أن معنى ‏[‏استوى‏]‏ خاص بالعرش، ليس عامًا كعموم الأشياء‏.‏
السادس‏:‏ أنه أخبر بخلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش، وأخبر أن عرشه كان على الماء قبل خلقها، وثبت ذلك في صحيح البخاري عن عمران ابن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:
‏ ‏(‏كان اللّه ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السموات والأرض‏)‏، مع أن العرش كان مخلوقًا قبل ذلك، فمعلوم أنه ما زال مستوليا عليه

 

ص -146-   قبل وبعد، فامتنع أن يكون الاستيلاء العام هذا الاستيلاء الخاص بزمان كما كان مختصًا بالعرش‏.‏
السابع‏:‏ أنه لم يثبت أن لفظ استوى في اللغة بمعنى‏:‏ استولى؛ إذ الذين قالوا ذلك عمدتهم البيت المشهور‏.‏
 ثم استوى بشر على العراق  من غير سيف ولا دم مهراق
ولم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه، وقالوا‏:‏ إنه بيت مصنوع لا يعرف في اللغة، وقد علم أنه لو احتج بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لاحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده‏؟‏‏!‏ وقد طعن فيه أئمة اللغة، وذكر عن الخليل كما ذكره أبو المظفر في كتابه ‏[‏الإفصاح‏]‏ قال‏:‏ سئل الخليل‏:‏ هل وجدت في اللغة استوى بمعنى‏:‏ استولى‏؟‏ فقال‏:‏ هذا ما لا تعرفه العرب، ولا هو جائز في لغتها ـ وهو إمام في اللغة على ما عرف من حاله ـ فحينئذ حمله على ما لا يعرف حمل باطل‏.‏
الثامن‏:‏ أنه روى عن جماعة من أهل اللغة أنهم قالوا‏:‏ لا يجوز استوى بمعنى‏:‏ استولى، إلا في حق من كان عاجزًا ثم ظهر، واللّه ـ سبحانه ـ لا يعجزه شيء، والعرش لا يغالبه في حال، فامتنع أن يكون بمعنى‏:‏ استولى‏.‏ فإذا تبين هذا فقول الشاعر‏:‏
   ثم استوى بشر على العراق

ص -147-   لفظ ‏[‏مجازي‏]‏ لا يجوز حمل الكلام عليه إلا مع قرينة تدل على إرادته، واللفظ المشترك بطريق الأولى، ومعلوم أنه ليس في الخطاب قرينة أنه أراد بالآية الاستيلاء‏.‏
وأيضًا، فأهل اللغة قالوا‏:‏ لا يكون استوى بمعنى‏:‏ استولى، إلا فيما كان منازعا مغالبًا، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل‏:‏ استولى، واللّه لم ينازعه أحد في العرش، فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم، لم يجب حمله عليه بمجرد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه، وهؤلاء ادعوا أنه بمعنى‏:‏ استولى في اللغة مطلقًا، والاستواء في القرآن في غير موضع، مثل قوله‏:‏
‏{‏فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 28‏]‏، ‏{‏وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ}‏ ‏[‏هود‏:‏44‏]‏، ‏{‏لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏13‏]‏، وفي حديث عدي‏:‏ أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أتى بدابته فلما وضع رجله في الغَرْزِ قال‏:‏ ‏(‏بسم الله‏)‏‏.‏ فلما استوى على ظهرها قال‏:‏ ‏(‏الحمد لله‏)‏ ‏[‏والغَرْز‏:‏ ركاب كور الجمل إذا كان من جِلْد أو خشب‏.‏ والمراد بوضع الرجل في الغرز‏:‏ السفر‏]‏‏.‏
التاسع‏:‏ أنه لو ثبت أنه من اللغة العربية لم يجب أن يكون من لغة العرب العرباء، ولو كان من لفظ بعض العرب العرباء، لم يجب أن يكون من لغة رسـول صلى الله عليه وسلم وقولـه، ولـو كان من لغته لكان بالمعنى المعروف في الكتاب والسنة وهو الذي يراد به، ولا يجوز أن يراد معنى آخر‏.‏
العاشر‏: ‏أنه لو حمل على هذا المعنى لأدى إلى محذور يجب تنزيه بعض الأئمة

 

ص -148-    عنه، فضلا عن الصحابة، فضلًا عن الله ورسوله‏.‏ فلو كان الكلام في الكتاب والسنة كلامًا نفهم منه معنى، ويريدون به آخر، لكان في ذلك تدليس وتلبيس، ومعاذ الله أن يكون ذلك‏!‏ فيجب أن يكون استعمال هذا الشاعر في هذا اللفظ في هذا المعنى ليس حقيقة بالاتفاق؛ بل حقيقة في غيره، ولوكان حقيقة فيه للزم الاشتراك المجازي فيه، وإذا كان مجازًا عن بعض العرب أو مجازًا اخترعه من بعده، أفتترك اللغة التي يخاطب بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمته‏؟‏‏!‏
الحادي عشر‏:‏ أن هذا اللفظ ـ الذي تكرر في الكتاب والسنة والدواعي متوفرة على فهم معناه من الخاصة والعامة عادة ودينًا ـ إن جعل الطريق إلى فهمه ببيت شعر أحدث فيؤدي إلى محذور، فلو حمل على معنى هذا البيت للزم تخطئة الأئمة الذين لهم مصنفات في الرد على من تأول ذلك، ولكان يؤدي إلى الكذب على اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة، وللزم أن اللّه امتحن عباده بفهم هذا دون هذا، مع ما تقرر في نفوسهم وما ورد به نص الكتاب والسنة، واللّه ـ سبحانه ـ لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وهذا مستحيل على اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة ‏.‏
الثانى عشر‏:‏ أن معنى الاستواء معلوم علمًا ظاهرًا بين الصحابة والتابعين وتابعيهم، فيكون التفسير المحدث بعده باطلا قطعًا، وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي؛ فإنه قال‏:‏ إن من قال‏:‏ ‏{
‏الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}‏ ‏[‏طه‏:‏ 5‏]‏

 

ص -149-   خلاف ما تقرر في نفوس العامة فهو جهمى‏.‏ ومنه قول مالك‏:‏ الاستواء معلوم، وليس المراد أن هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس‏:‏ استوى أم لا ‏؟‏ أو أنه سئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة‏.‏ والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه، فقد تكلم فيه الصحابة والتابعون، وإنما البدعة السؤال عن الكيفية‏.‏
ومن أراد أن يزداد في هذه القاعدة نورًا، فلينظر في شيء من الهيئة، وهي الإحاطة والكُرِّيّة، ولابد من ذكر الإحاطة ليعلم ذلك‏.

ص -150-   فصــل
اعلم أن الأرض قد اتفقوا على أنها كروية الشكل، وهي في الماء المحيط بأكثرها؛ إذ اليابس السدس وزيادة بقليل، والماء ـ أيضًا ـ مقبب من كل جانب للأرض، والماء الذي فوقها بينه وبين السماء كما بيننا وبينها مما يلى رؤوسنا، وليس تحت وجه الأرض إلا وسطها ونهاية التحت المركز ؛ فلا يكون لنا جهة بينة إلا جهتان‏:‏ العلو والسفل، وإنما تختلف الجهات باختلاف الإنسان ‏.‏
فعلو الأرض وجهها من كل جانب، وأسفلها ما تحت وجهها ـ ونهاية المركز ـ هو الذي يسمى محط الأثقال، فمن وجه الأرض والماء من كل وجهة إلى المركز يكون هبوطًا، ومنه إلى وجهها صعودًا، وإذا كانت سماء الدنيا فوق الأرض محيطة بها فالثانية كُرِّية، وكذا الباقي‏.‏ والكرسي فوق الأفلاك كلها، والعرش فوق الكرسي، ونسبة الأفلاك وما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة في فَلاة، والجملة بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة ‏.‏
والأفلاك مستديرة بالكتاب والسنة والإجماع، فإن لفظ ‏[‏الفلك‏]‏ يدل على الاستدارة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏
{‏وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}‏ ‏[‏يس‏:‏40‏]‏؛ قال ابن عباس‏:‏ في فلكة كفلكة المغزل، ومنه قولهم‏:‏ تَفَلَّكَ ثدى الجارية‏:‏ إذا استدار، وأهل الهيئة والحساب متفقون على ذلك ‏.‏

ص -151-   وأما ‏[‏العرش‏]‏ فإنه مقبب، لما روى في السنن لأبي داود عن جبير بن مطعم قال‏:‏ أتى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال‏:‏ يارسول اللّه، جهدت الأنفس، وجاع العيال، وذكر الحديث إلى أن قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن اللّه على عرشه، وإن عرشه على سمواته وأرضه كهكذا‏)‏ وقال بإصبعه مثل القبة ‏.‏
ولم يثبت أنه فلك مستدير مطلقًا، بل ثبت أنه فوق الأفلاك وأن له قوائم، كما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد قال‏:‏ جاء رجل من إليهود إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد لُطِم وجهُه فقال‏:‏ يامحمد، إن رجلا من أصحابك لَطم وجهى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ادعوه‏)‏ فدعوه‏.‏ فقال‏:‏ ‏(‏لم لطمتَ وجهَه‏؟‏‏)‏ فقال‏:‏ يارسول اللّه، إني مررت بالسوق وهو يقول‏:‏ والذي اصطفي موسى على البشر، فقلت‏:‏ يا خبيث، وعلى محمد، فأخذتني غضبة فلطمته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏
(‏لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يُصعَقون يوم القيامة، فأكون أول من يفيق، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جُوزِى بِصَعْقَة الطور‏؟‏‏)‏‏.‏
وفي ‏[‏علوه‏]‏ قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس، فإنه وسط الجنة وأعلاها، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة‏)‏‏.‏
فقد تبين بهذه الأحاديث أنه أعلى المخلوقات وسقفها، وأنه مقبب وأن له

 

ص -152-   قوائم، وعلى كل تقدير فهو فوق، سواء كان محيطًا بالأفلاك أو غير ذلك، فيجب أن يعلم أن العالم العلوي والسفلى بالنسبة إلى الخالق ـ سبحانه وتعالى ـ في غاية الصغر؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية ‏[‏الأنعام‏:‏91، الزمر‏:‏ 67‏]‏‏.‏
قاعدة عظيمة في إثبات علوه تعالى‏:‏
وهو واجب بالعقل الصريح، والفطرة الإنسانية الصحيحة‏.‏ وهو أن يقال‏:‏ كان اللَّه ولا شيء معه ثم خلق العالم، فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون خلقه في نفسه وانفصل عنه، وهذا محال، تعالى اللّه عن مماسة الأقذار وغيرها، وإما أن يكون خلقه خارجًا عنه ثم دخل فيه، وهذا محال أيضًا، تعالى أن يحل في خلقه ـ وهاتان لا نزاع فيهما بين أحد من المسلمين ـ وإما إن يكون خلقه خارجًا عن نفسه الكريمة ولم يحل فيه، فهذا هو الحق الذي لا يجوز غيره، ولا يليق باللّه إلا هو‏.‏ وهذه القاعدة للإمام أحمد من حججه على الجهمية في زمن المحنة‏.‏ وذكر الأشعري في ‏[‏المقالات‏]‏ مقالة محمد بن كُلاب الذي ائتم به الأشعري‏:‏ إنه يعرف بالعقل أن اللَّهَ فوق العالم، والاستواء بالسمع، وبأخبار الرسل الذين بعثوا بتكميل الفطر، ولا تبديل لفطرة اللَّهِ، وجاءت الشريعة بها، خلافًا لأهل الضلال من الفلاسفة وغيرهم فإنهم قلبوا الحقائق‏.‏